الأحد 15 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

درست الصحافة وأنا تلميذ ثانوى!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

سألنى أحد الأصدقاء: 

لماذا لم تلتحق بقسم الصحافة فى كلية الآداب ما دمت كنت تحب الصحافة منذ صغرك؟ 

فقلت له: سوف لا تصدق أننى درست الصحافة وأنا فى المدرسة الثانوية.

انبهر صديقى وبانت عليه علامات عدم تصديق ما أقول، فاضطررت لشرح المسألة بالتفاصيل..  الحكاية هى أن والدى لاحظ اهتمامى بممارسة الصحافة فى صغرى منذ أصدرت مجلة البيت ثم مجلة الحائط الأسبوعية «صوت عتاقة» التى كانت تعلق فى لوحة كبيرة فى المدينة السكنية التابعة لمصانع الأسمدة فى عتاقة التى عشنا فيها على أطراف السويس.

 

 

لاحظ موهبتى فأعطانى المال اللازم لطبع المجلة.

وقبلها وجدنى أشترك فى تحرير المجلة المحلية للسويس «الأمانى القومية» وأحصل وأنا تلميذ إعدادى فى عمر 13 سنة على خمس جنيهات أجرا.

كان يريد لموهبتى هذه أن تصقل بالعلم، فماذا فعل؟.. 

كان هناك معهد أهلى فى القاهرة للدراسة بالمراسلة يوفر كورسات فى مجالات مختلفة منها الصحافة يديره كاتب صحفى معروف هو فائق الجوهرى الذى كان مديرا لمجلة «كتب للجميع» الشهيرة وقتها، فأراد والدى أن يسجلنى للدراسة فيه.

لكن المعهد يشترط أن يكون الدارس قد تجاوز سن الثامنة عشرة.. بينما أنا أصغر من ذلك بعدة سنوات، فقرر والدى أن يتقدم للدراسة باسمه! 

 

 

 

وجاءت المحاضرات والدروس بالبريد، فكان يتلقاها ونقرؤها معا، وفى نهاية كل محاضرة، يختبرنى فيما ورد فيها من معلومات ومعارف.

وتوالت الدروس عن تاريخ الصحافة ونشأتها وتاريخ الطباعة وعن فنون التحرير، وفنون جمع الأخبار وأساليب كتابة الخبر والتحقيق الصحفى والحديث والتقرير، وأيضا عن فن الإخراج الصحفى للجرائد والمجلات وعن وكالات الأنباء وعن التخصصات المختلفة فى مهنة الصحافة.. وعن قوانين النشر وهكذا.

 ومع نهاية الكورس جاء وقت الامتحان، فتركنى أجيب على الأسئلة ثم بعث بها إلى المعهد فى القاهرة.

وبعد فترة تلقينا فى البريد شهادة «دبلوم الصحافة» باسم والدى، مع أننى المعنى بالأمر.

وهكذا حصلت على المعارف العلمية الخاصة بالصحافة التى كنت أهواها وأمارسها بالفعل.

■ اختراع فرعوني

فى سنة 1961 اختيرت مجلتى الحائطية التى أصدرتها وأنا طالب فى السنة الأولى فى مدرسة السويس الثانوية، للاشتراك فى معرض الصحافة المدرسية الذى أقيم فى مقر وزارة التربية والتعليم فى القاهرة فسافرت ومعى المجلة فى رفقة المشرف الاجتماعى رجب البنا.

وهناك التقيت فتحى غانم رئيس تحرير «صباح الخير» الذى كان يزور المعرض وأعجبه مقالى عن أن المصريين القدماء هم من اخترع الصحافة من خلال نشر وتبادل الكتابات والأوامر والأخبار والوصايا والآراء فى البرديات وتعليقها على الجدران وكذلك الرسوم والكتابات المتجددة على الجدران، فطلب منى نسخ المقال والحضور إلى المجلة فى اليوم التالى لأنه يريد نشره باسمى!

ومن وقتها وبعد زيارتى لمؤسسة «روز اليوسف» ومجلة «صباح الخير» احتفل بى فتحى غانم وقدمنى لإحسان عبد القدوس قائلا هذا أصغر صحفى فى مصر..عمره 16 سنة!.. وبعد نشر الموضوع فى المجلة باسمى، كان الأمر قد حسم:

 مستقبلى هو «صباح الخير».

ولأننى أكتب وأرسم وأصمم المجلات الحائطية التى أصدرها ويشترك معى آخرون فى تحريرها.. فقد كان اختيارى بعد الثانوية العامة هو الالتحاق بكلية الفنون الجميلة وليس قسم الصحافة فى كلية الآداب.

نسيت أن أقول إننى عندما كنت فى السويس فى المدرسة الثانوية، تعرّفت على شابين يدرسان الصحافة فى كلية الآداب - جامعة القاهرة.

وكنت أحصل منهما على بعض كتب يدرسانها كما أتيحت لى أكثر من مرة فرصة حضور بعض محاضرات قسم الصحافة فى القاهرة.

وهناك التقيت أساتذة مثل الدكتور خليل صابات والدكتور سامى عزيز وغيرهما، كما حضرت لقاء بين طلبة قسم الصحافة ومصطفى أمين.. وأذكر أنه كان يتحدّث عن خبرته الشخصية فى العمل الصحفى وكيف كان يسعى بكل الطرق للحصول على الأخبار حتى إنه لم يكن يمانع فى تقليب سلال المهملات الخاصة بالوزراء وكبار المسئولين ويعتبرها كنزا للأخبار والأسرار!

 وهو ما أثار حفيظتى.

 وبالمناسبة فقد كان لخريجى قسم الصحافة ناد خاص يلتقون فيه ويعقدون حلقات مناقشة وبحث مع كبار الصحفيين وأتذكر ندوة حضرتها كانت مع كمال الملاخ محرر الصفحة الأخيرة فى «الأهرام».. والمناقشات الساخنة معه التى تشير إلى أنه يتحيز لبعض الشخصيات العامة والفنانين والفنانات ضد الآخرين.

وطبعا دافع عن نفسه بشدة وراح يردد بفخر أن قراء صفحته «من غير عنوان» أكثر عددا من قراء صحف أخرى وأنها تأتى بعد صفحة الوفيات لتقدم صورة حية للحياة!

 

■ الخبر بنصف جنيه

وقتها كنت أكسب ما بين 10 و15جنيها كل شهر من الأخبار التى أقدمها لمحرر «حديث المدينة» الصفحة الأخيرة فى جريدة «الأخبار» نبيل عصمت، نصف جنيه مقابل كل خبر ينشر. بينما أحصل على عشر جنيهات من «صباح الخير» كمحرر تحت التمرين وعشر جنيهات أخرى من والدى.. فكان دخلى الشهرى وأنا محرر تحت التمرين يساوى مرتب أى صحفى متمرس.

وكان نبيل عصمت يتميز بالحماس والاهتمام بكل صغيرة وكبيرة ويرحب بأخبارى لأنها تغطى دوائر مهمة فكنت آتى بها من قهوة «ريش» كمركز لنشاط الأدباء والكتاب والفنانين ومن كلية الفنون التى أدرس فيها وأخبار الفنانين التشكيليين والمعارض والبعثات.. وأيضا من «صباح الخير» و«روزاليوسف» وأخبار كتابهما وفنانينهما..وزوارهما من العرب.

وفى سنة 1967 بعد الهزيمة طلبت من لويس جريس وكان رئيس تحرير «صباح الخير» أن أذهب إلى السويس لتغطية أحوال منطقة القناة باعتبارها خط النار الأول.

فرفض.

وعندما طلبت ذلك من الدكتور مفيد شهاب رئيس تحرير مجلة «الشباب العربي» رحب بشدة ووفر لى كل ما يتطلبه عملى هناك من تكاليف كما كلّف المصور صلاح أحمد ليزاملنى فى عملى ونشرت سلسلة تحقيقات مصورة من هناك تحت عنوان «نبض الحياة على خط النار».  

وأعود لأقول إن مجلات الحائط التى كنت أكتبها وأرسمها من أيام المدرسة الإعدادية وحتى الثانوية، لها الفضل الأول عليّ.

ويكفى أن أذكر بفخر أن مقالى فى مجلة مدرسة السويس الثانوية كان سبب دخولى «صباح الخير».. وليتنى أعثر على نسخة من عدد المجلة الذى نشر فيه هذا المقال وعنوانه على ما أذكر هو «المصريون القدماء هم من اخترع الصحافة» أو ربما «الصحافة اختراع فرعوني».. الذى أعجب فتحى غانم فكان مدخلى لـ«صباح الخير» فى سنة 1961. أى منذ 64 سنة تماما. 

وأتساءل الآن: هل هناك من هم مثل الكاتب الصحفى والروائى الكبير فتحى غانم من رؤساء تحرير يطوفون معارض الصحافة المدرسية لاكتشاف مواهب صحفية جديدة، وتقديمها باهتمام وفخر كما جرى معى.. أم أننى كنت محظوظا بجيل فتحى غانم الرائد فى الصحافة وفى الأدب؟!

ولا أنسى كيف كانت مجلة الحائط التى كنت أصدرها يوميا طوال اشتراكى فى معسكر العمل الوطنى فى وادى النطرون سببا فى اختيارى لعضوية وفد الشباب المصرى الذى دعاه الرئيس جوزيف تيتو لتمضية شهر فى بلاده يوغوسلافيا سنة 1963.

وقد زرنا العاصمة اليونانية وأمضينا فيها أسبوعا قبل أن نتجه إلى العاصمة اليوغوسلافية بلجراد.

ومن الطريف الذى لا أنساه أننا دخلنا اليونان كمملكة وخرجنا منها وقد وقع فيها انقلاب وتحولت إلى جمهورية!

كنت أصغر أعضاء هذا الوفد سنا (18 سنة) واختارنى واحد من أنبل من عرفت هو عادل طاهر سكرتير عام المجلس الأعلى لرعاية الشباب. 

وفى العام التالى التحقت بالعمل فى «صباح الخير».

وفى الأسبوع المقبل نواصل