البرلمان يهاجم إحسان!

منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
لأسباب متعددة أعتبر سنة 1964 التى التحقت فيها بـ«صباح الخير» كمحرر تحت التمرين، سنة لها تاريخ.. ويعود ذلك إلى كثرة الوقائع التى شهدتها.. ومنها الواقعة التى أتناولها فى هذا الحديث، والتى أصابتنا فى مؤسسة «روزاليوسف» بحالة من التوتر والقلق والخوف على مستقبل الأستاذ إحسان عبدالقدوس بل ومستقبل المؤسسة ومجلتيها «روزاليوسف» و«صباح الخير» وكتابها الذهبى.. وأيضا مستقبل الأدب فى مصر.
فقد فوجئنا جميعا بحملة شديدة فى مجلس الأمة (البرلمان) ضد إحسان عبد القدوس تتهمه بنشر الفسق والفساد الأخلاقى وإفساد الشباب.. والترويج للإباحية والجنس وتدمير قيم المجتمع.. واتهامات أخرى ضخمة صرخ بها «عبد الصمد محمد عبد الصمد» عضو البرلمان عن دائرة المنيا.
والسبب هو رواية جديدة يكتبها إحسان وتنشر على حلقات مسلسلة كل أسبوع فى مجلة «روزاليوسف».. هى رواية «أنف وثلاث عيون».
وامتدت الضجة ليشارك فيها أعضاء آخرون فى البرلمان وامتلأت الصحف بمقالات محمومة تسيء إلى ألكاتب الصحفى الكبير والأديب الأكثر شعبية وانتشارا فى مصر، وتصفه بكل النقائص.. وهى كتابات لإناس أرادوا انتهاز فرصة الحملة البرلمانية ليحققوا شهرة لا يملكون لها مؤهلات ( كما وصفهم إحسان).
المهم أننا جميعا كنا نتابع تفاصيل الحملة فنفاجأ كل يوم بفضيحة تخص من يقودونها.
فالأخ عبد الصمد، مثلا اعترف بأنه لم يقرأ الرواية!.. لكنه سمع من بعض الناس عنها ووصفوا له ما قرأوه وقدموا له قصاصات من الحلقات المنشورة فراح يقرؤها كلمة كلمة فى جلسات البرلمان وسط ضحكات وشتائم وتعليقات وقحة.
■ كارثة على الأدب
علق إحسان على هذه الحملة البرلمانية بقوله «إنها كارثة على الأدب العربى على وشك أن تهب عندما تمتد يد غير المتخصصين لتحاول خنق إنتاج أدبى.. فهى كارثة بكل المقاييس».
والغريب أن رئيس البرلمان وقتها أنور السادات لم يتدخل لضبط حالة التهور وقلة الأدب التى سادت هذه الجلسات.. صحيح أنه اتصل بصديقه إحسان عبد القدوس وأخبره بأنه تلقى طلبات لمناقشة الرواية، لكنه ترك المناقشات تتحول إلى حملة شعواء ضد إحسان شخصيا وليس ضد الرواية.

وكان هذا لافتا لأنظار كل من فى المؤسسة، فلم تعد المسألة مناقشة رواية، لكن عملية انتقام مغرضة وغير مفهومة ضد إحسان.
وحاول النائب المحافظ إثارة الحكومة ضد كاتبنا الكبير فتوجه إلى نائب رئيس الوزراء وزير الثقافة والإرشاد القومى الدكتور محمد عبد القادر حاتم مطالبا بمنع نشر بقية الرواية ومنع صدورها فى كتاب أو فى السينما والإذاعة.
كما طالب بإقصاء إحسان عبد القدوس من الصحافة ومنعه من الكتابة..
لكن حاتم فاجأه بالقول إن الصحافة حرة والحكومة ليست لها سيطرة عليها.. ومن السابق لأوانه أن نرفض إنتاجها فى السينما أو الإذاعة حيث لم يتقدم أحد بطلب إنتاجها.
فامتدت مطالبات النائب عبد الصمد ومن أيدوه فى البرلمان ضد إحسان، فطلبوا تحويل الأمر إلى النيابة العامة للتحقيق مع الكاتب!
■ عبد الناصر يطلب الرواية
خلال هذه الأزمة طلب الرئيس جمال عبد الناصر، أن يقرأ الرواية كاملة ومع أنها تتناول متاعب ما بعد تطبيق قوانين الإصلاح الزراعى وانتشار الفساد الاجتماعى واهتزاز القيم بعد هزيمة يونيو.

ومع أنها تقدم عدة شخصيات نسائية فى ظروف تحلل وانحلال وسقوط، مع شخصيات أخرى تحاول الحفاظ على القيم.
وقرر بعد قراءتها أن تنشر ولم ير فيها ما يراه من صرخوا فى جلسات البرلمان وعلى صفحات الصحف.
فتعشمنا خيرا.. وقلنا أن هناك من ينظر إلى الأمور بعين تحترم الأدب وفنون التعبير. وزاد إعجابنا بموقف الرئيس عندما تدخل بمنع تحويل القضية إلى النيابة أو بوليس الآداب..
لكننا فوجئنا بعد فترة بصدور قرار بإعفاء إحسان عبد القدوس من منصبه كرئيس لمجلس إدارة المؤسسة؟!
وكنا نتساءل: هل هذا عقاب له على الرواية التى أثارت الأزمة البرلمانية واستجابة لطلب «عبد الصمد»؟
وكرر إحسان أن تخليصه من الأعباء الإدارية يسعده حتى يتفرغ لعمله الصحفى والأدبى، لكنه يرجو ألا تكون للقرار صلة بالضجة المفتعلة حول «أنف وثلاث عيون».

لكن كيف تلقى الكاتب الأكثر اقترابا من جمهور كبير من القراء ومشاهدى أفلامه.. أكثر من أى كاتب آخر بمن فيهم نجيب محفوظ، لأنه يكتب بلغة السهل الممتنع البسيطة العميقة التى تصل إليهم كجمهور عام وليس فقط لفئة المثقفين التى يكتب لها آخرون.
ولعل إحسان عبد القدوس يعتبر أكثر كاتب روائى شاركت رواياته فى إحداث تغيير اجتماعى حقيقى فى حياة الناس بكشفه عن عيوب المجتمع والناس.. ومساندته لحقوق المرأة.
توجه إحسان إلى الأدباء الكبار أعضاء لجنة القصة فى المجلس الأعلى للفنون والآداب، مستجيرا بهم لإنصافه أمام الحملة الشعواء فى البرلمان.
وكان يرأس اللجنة صديقه توفيق الحكيم وتضم الدكتور طه حسين ونجيب محفوظ.
وأرسل خطابا للجنة يقول فيه: إن القضية قضية أدبية وإن لجنة القصة هى صاحبة الحق فى أن تبدى رأيها فى هذا الاتجاه الأدبى فإذا وجدت أنه ليس من الأدب فى شيء أو أن نشره يعارض المصلحة العامة توقفت عن السير فيه رغم إيمانى به لأن الرأى هنا سيكون رأى لجنة من المتخصصين.

أما إن كان هذا الاتجاه صالحا للنشر فمن حقى أن أسير فيه.
وكتب مقالا فى «روزاليوسف» يشرح فيه ما جرى بعد ذلك: «تحمست اللجنة لموقفى وأبدت تأييدا، وعندما طلبت من الأستاذ توفيق الحكيم تسجيل رأى اللجنة كتابة فى محضر الجلسة لأستعين به لو قدمت للمحاكمة لا للنشر فى الصحف.. تراجع وطلب أن يستشير فى الأمر يوسف السباعى، وكان يقصد استشارة الحكومة، خرجت من اللجنة يائسا، وقلت للحكيم: إنه إذا حققت النيابة معى فستكون البداية لكل الأدباء».
دامت أزمة رواية «أنف وثلاث عيون» عدة سنوات.
وخلالها منعت الحكومة نشرها فى كتاب إلا إذا حذفت منها فصول ومشاهد.
ورفض إحسان عبد القدوس أى تغيير فى الرواية فلم تنشر وقتها..
وحكى فى أكثر من مناسبة ما تعرض له من متاعب بسبب هذه الرواية بالذات مع أنه كان قد واجه من قبل أزمة مشابهة لكن أخف عندما نشر رواية «لا أنام»..
وعن الجنس فى الأدب قال:
لست الكاتب المصرى الوحيد الذى كتب عن الجنس، فهناك المازنى فى قصة «ثلاثة رجال وامرأة» وتوفيق الحكيم فى قصة «الرباط المقدس» وفى كليهما جنس أوضح مما كتبت، كما أن نجيب محفوظ يعالج الجنس بصراحة فى رواياته إلا أن رواياته تدور حول المجتمع الشعبى الذى لا يقرأ ولا يكتب، أو يكتب فى مواضيع تاريخية، أما أنا فقد كنت واضحا وصريحا وجريئا فكتبت عن الجنس حين أحسست أن عندى ما أكتبه عنه سواء عند الطبقة المتوسطة أو الطبقة الشعبية دون أن أسعى لمجاملة طبقة على حساب طبقة أخرى، لكن ثورة الناس على هؤلاء الأدباء جعلتهم يتراجعوا لكنى لم أضعف مثلهم عندما هوجمت فقد تحملت سخط الناس عليّ لإيمانى بمسئوليتى ككاتب.
لكن مفاجأة حدثت منذ عشر سنوات تقريبا وبعد ربع قرن من رحيل إحسان فى 1990 عندما نشر نص رسالة بعث بها إحسان عبد القدوس إلى عميد الأدب العربى بعد سنتين من أزمة «أنف وثلاث عيون» جاء فيها أنه تعرض لحالة نفسية صعبة واهتزت ثقته فى نفسه وفكر فى ترك الأدب نهائيا.
حدث هذا للحظة استعاد بعدها الكاتب الكبير مواقفه السابقة من الحملات التى جرت ضده قبل الثورة وبعدها وتعرضه للسجن والاعتقال ومحاولات الاغتيال وصموده وانتصاره.
والسبب هو صدقه وشجاعته وصبره وتماسكه.. ويمكننا أن نضيف إلى كل ذلك «عبقريته».

طبعا نحن نعرف الآن أن الرواية صدرت فى كتاب بعد ذلك بسنوات وأن النجمة ماجدة أنتجتها فى فيلم بعد ذلك بثمانى سنوات، وشاركت فى بطولته نجلاء فتحى وميرفت أمين، ونعرف أن الرواية أنتجت كذلك فى مسلسل تليفزيونى بطولة ليلى علوى.. وفيلم آخر بمعالجة فنية جديدة.
وفى الأسبوع المقبل نواصل