فى ملتقى الشارقة للتكريم الثقافى اعتدال عثمان: الكتابة رحلة اكتشاف

حوار: د. عزة بدر
تثرى الكاتبة والناقدة اعتدال عثمان حياتنا الثقافية بكتاباتها المتميزة التى عبَّرت فيها عن أصالة المبدعة، وهى تتطلع إلى الإبداع الأدبى كوسيلة للتواصل الإنسانى، والتعبير عن المجتمع، والرغبة فى التجديد، فى اللغة والتصوير، وارتياد عوالم غير مألوفة فى السرد، من خلال كتاباتها القصصية، وفى النقد من خلال رؤاها التى تتمثل فيها العمل الأدبى، وتعيش برهافة فى تحليل مفرداته ومعانيه، وتضيف إليه من خبراتها الجمالية والنقدية.
وأحدث تكريم حصلت عليه كاتبتنا كان فى ملتقى الشارقة للتكريم الثقافى فى احتفال مهم بالمجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، وبتنسيق بين دائرة الثقافة بالشارقة، ووزارة الثقافة المصرية حيث تم تكريم اعتدال عثمان، ود. صلاح السروى، وشوقى بدر يوسف، وعزت القمحاوى، ويهدف الملتقى إلى تكريم الشخصيات العربية التى أسهمت فى خدمة الثقافة العربية المعاصرة.
وصدر مع الاحتفال كتاب خاص عن المكرمين أسهم فيه كل من د. صبرى حافظ، ود. محمد عطية، وصبحى مرسى، وكاتبة هذه السطور، وأشرف على هذا الإصدار الشاعر حسين القباحى.
.. وفى حوار مع الكاتبة والناقدة اعتدال عثمان لصباح الخير، كانت هذه الإضاءات حول رحلتها الإبداعية.
عالم البحر
قلت لها: مجموعاتك القصصية اللافتة (يونس البحر»، و«وشم الشمس» علامات مهمة فى عالم السرد والتجديد فيه، فماذا عن ملامح وتجليات هذين العملين؟
قالت: «البحر أحد الظواهر الطبيعية المليئة بالأسرار والجاذبية، وما يخفيه البحر أكثر مما يظهره، لذا فهو يمس أعماق المبدع بماله من طقوس وتفاعلات.
قصة «يونس البحر» مثلا هى تجربة بين جيلين، الشباب الذين نشأ إلى جوار البحر، ويتمثل هذا فى «يونس ابحر»، والجيل الجديد الذى يتمثل فى الطفل ابن الأسطورة الذى اصطحبه مع «يونس» فى قاربه فاكتسب الطفل خبرات أكثر من سنه، وتتجلى فى حياته».
الإبداع وسيلة للتواصل
• قلت: هل تأثرت فى هذه القصة بعالم همنجواى فى رائعته (العجوز والبحر»؟
قالت: «الأدب العالمى له مواصفات ترتبط بالبيئة الخاصة به أما يونس البحر فهو مرتبط بالتكوين المصرى الأصيل، والبحر له أسرار مثل التى تقابلها فى الحياة، ومن خلال التجارب الحياتية والثقافة، والحلم بأن يكون الإبداع وسيلة للتواصل الإنسانى أكتب.
• قلت: جعلت يونس يتمتع بحرية فائقة…
قالت: ليست حرية فائقة لكنها حرية متحققة، فتحت أمام هذا الشخص البسيط آفاقا غير متوقعة له ولمن حوله، فاكتشف عوالم غير متاحة له فى سياقه الأسرى، يونس البحر لم ينجب، لكنه اختار هذا الصبى «ابن الأسطورة» ليكون مستقبل طموحاته وأحلامه، وفى الوقت نفسه يعطيه جانبا من التواصل الإنسانى.
قلت: من خلال عالم عجائبى عرف «الغندورة» ورغم اختلاف عالميهما التقيا فى علاقة غير متكافئة لكنها إنسانية.
قالت: «يونس خلق للغندورة جوا أسطوريا ليستطيع أن تكون له علاقة بها، وكانت النتيجة هذا الوليد الذى ليس له نسب معتاد، لكنه ابن الأسطورة..
كنت أحاول أن أكتب بشكل غير مألوف، لا يشمل الواقع فحسب، لكن يأخذ فى اعتباره القدرات الإنسانية غير المحدودة فى تصور العالم، وكيف تتجسد الأسطورة.
تجليات الشخصية المصرية
قلت: وماذا عن مجموعتك «وشم الشمس»، كيف تجسدت فى خيالك ثم على الورق؟
أجابت: «وشم الشمس» تمثل أعماق الروح المصرية، خاصة قصة «سلطانة» فهى سيدة من أصول ريفية، لديها حكمة وخبرة حياتية وثقافية متوارثة تمثل عمق الشخصية المصرية، وتفاعلها مع الأجيال الجديدة فهى تعطى لهم التاريخ فى ثوب حضارى، يتعلق بالشخصية المصرية فى تجلياتها المتعددة والعريقة، «سلطانة» تمثل شخصية غنية للمرأة المصرية الأصيلة.
• قلت: هل استلهمت شخصية بالذات أم أن شخصياتك من صنع الخيال؟
قالت: أستلهم شخصياتى من العمق المصرى الحضارى، وتعدد النماذج والأنماط، والحلم الممتد أن تأخذ مصر موقعها الحضارى الذى يليق بها، وأن تتفاعل معه الأجيال مما يؤكد العمق الحضارى والجانب الإنسانى، والموهبة الكامنة فى تراثنا العريق، وتطلعا إلى المستقبل المواكب للعصر.
قلت: أحببت «سلطانة» كما أحببتها فهل تجسدت فى الواقع؟
قالت: «السلطانة هى سيدة ريفية بسيطة لكنها تمتلك قدرات فى التعامل مع العالم وأطفال القرية بقدرات استثنائية وغير متوقعة، على بساطتها كانت لديها ذخيرة كبيرة جدا من الحكايات والأساطير والرغبة فى أن تزرع وجدان الأطفال وتفتح لهم آفاقا غير عوالمهم المحدودة.

بالطبع.. الخيال هو الغالب فى تصوير شخصية «السلطانة»، لكننى استلهمت بعض الشخصيات التى التقيت بها فى طفولتى التى قضيت سنينها الأولى فى «طوخ» مع سيدات ريفيات مؤثرات منهن «خالتى»، وعشت فى بيئة منفتحة، فيها رحابة وود، ومن هنا استلهمت شخصية «السلطانة» التى تهدف إلى بناء جيل جديد من أطفال القرية.
النقد إبداع
قلت: ورغم هذا التميز اللافت فى كتاباتك للقصة القصيرة والتى حصلت بها على جائزة كفافيس الدولية عام 2019، فقد شغلتك كتاباتك النقدية عن كتابة القصة.
قالت: تزامنت كتابتى للقصة القصيرة مع كتابتى للدراسات النقدية، وأرى النقد عملية إبداعية، فالكاتب ينتقى العناصر المكونة للعمل الأدبى، والناقد يرى هذا العالم، الناقد أمامه عالم الكاتب، والناقد أمامه الصور والمفردات والرؤى التى توصل إليها الكاتب، والمبدع أمامه العالم كله.
قلت: وفى هذه الحالة، هل عالم الكاتب أكثر اتساعا من عالم الناقد؟
أجابت: الناقد يستكشف هذه العناصر، ويقدمها بشكل يضيء النص، ويضيف إلى الحصيلة المعرفية والجمالية للقارئ، والناقد من الممكن أن يلجأ إلى نصوص أخرى تضيء النص المنقود، ولا يكتفى بالنصوص فقط، لكنه يستعين بعلوم أخرى مثل الفلسفة والاجتماع، ويضىء النص، فالناقد يستكشف ويضيف إلى العمل الإبداعى.
قلت: وماذا عن كتابك الأول، إضاءة النص.. الذى أضأت به العديد من النصوص الشعرية؟
قالت: تحولت من إضاءة النص الشعرى إلى الكتابة عن عالم السرد «القصة والرواية»، وهذه تحولات تحدث أحيانا فيجد الناقد نفسه فى السياق السردى.
• وبالنسبة للشعر؟
اكتفيت بكتابى الأول «إضاء ة النص»، ليس عندى إجابة، سيبقى السؤال معلقا!
- لكن هناك تحولات مهمة فى الشعر أيضا…
- نعم هناك قصيدة النثر، وتحولات فى الشعر، وحتى فى الأعمال السردية تدخل اللغة الشعرية فى أحيان كثيرة، السرد فتح مجالات استقطبت قدرا من الإنجاز الشعرى، الشعر موجود، وله أعلامه وأصحاب الموهبة فيه، ولن ينقطع.
كتابة مختلفة
قلت: تداخل الشعر والسرد بشكل عميق فى قصتك «الزمرد يتمرد».
قالت: نعم «الزمرد يتمرد» محاولة لغوية فى الأساس، استخدمت لغة مختلفة عن المعتاد، والتى تتحول فى النهاية إلى كسر القوالب المعتادة، والتمرد على الأساليب السائدة فى الكتابة، كنت أطمح إلى كتابة مختلفة.
قلت: هناك إشارات فى هذه القصة لقصائد شعرية لأمل دنقل ومحمود درويش، وفيها نسمتع إلى لغة صوفية تستدعين فيها بعض النصوص الصوفية المهمة، فماذا عن اللغة الصوفية فى أعمالك؟
أجابت: التصوف عالم متكامل يتعلق بالروحانيات، وتوظيف الحس الصوفى فى تلقى العالم، والحياة اليومية، وما يميز الحس الصوفى أنه يخرج عن الوضوعات التقليدية ويصبح الإنسان عنده حرية الانطلاق الكونى، ويخرج من إهابه الإنسانى المحدود إلى إهاب إنسانى غير محدود.
أحببت كتاب «المخاطبات» للنفّرى. ليس تجسيدًا للحالة الصوفية لكنه تطلع إلى التعرف على عوالم متعددة غير العالم الواقعى الذى نعيش فيه، والقدرات الخاصة التى تتجسد فى كتب المتصوفة. المسكوت عنه فى الأدب!
سألتها: فى كتابك «قضايا وقراءات فى أدب المرأة العربية» تحدثت عن الأدب المسكوت عنه، خاصة فى كتابات المرأة فماذا عن ذلك؟
قالت: المرأة غير منفصلة عن العالم الاجتماعى والحياة العملية، المرأة أنجزت وأثبتت وجودها، وحققت حضورها إبداعا حقيقيا لكن مجتمعاتنا ما زالت تفرق بين المرأة والرجل ومع ذلك هناك أفلام نسائية حققت إنجازات مهمة.
قلت: أتتفقين معى فى أن تهميش الأدب الذى تكتبه المرأة قد أضر بتاريخ الأدب؟
قالت: هناك أصوات إبداعية على الساحة الثقافية، وعبر مساحة زمنية طويلة، كتابات المرأة لها ثقل كبير، لكن المجتمع لا يزال فى حاجة غلى النظر، إلى أدبها بشكل متكافئ.
فخطر على ذهنى سؤال آخر مهم فقلت:
وماذا عن المسكوت عنه فى الأدب بصفة عامة؟
فقالت: إنه الإنسان خلق لكى يجتاز رحلة الحياة بمشاكلها ومتاعبها ونجاحاتها وإخفاقاتها، والمهم أن يحدث المرء فى مجتمعه، رجلا كان أم امرأة آثارا ملموسة، أحيانا تكون هناك موجات تقليدية وأخرى تميل إلى التجديد، والإضافة والإبداع، وتحقيق مجالات جديدة على مدى تاريخ البشرية، وعلى الإنسان فى كل الأحوال أن يعطى للحياة قيمتها، ويسهم فى تجديد النظرة إلى الحياة، والتفاعل مع الواقع بمشاكله ومميزاته ونجاحاته.
فى عالم الصحافة الأدبية
قلت: إلى جانب رحلتك الإبداعية، هناك رحلة فى عالم الصحافة الأدبية، بدأتها عام 1980 من خلال مجلة «فصول»، فماذا عن معالم هذه المسيرة الثقافية؟
قالت: عملت فى مجلة «فصول» منذ أول إصدار، كان الشاعر صلاح عبدالصبور رئيسا لهيئة الكتاب حينذاك، وكان عز الدين إسماعيل رئيسا لتحرير «فصول»، وكان صلاح فضل، وجابر عصفور نائبى رئيس التحرير، وكانت المجلة تمثل قفزة معرفية ونقدية بعد فترة ركود طويلة، وساعدت مجلة «فصول» حينذاك على النقد من مرحلة سابقة آفلة إلى مرحلة جديدة فيها اتصال بالواقع النقدى العالمى، فساعدت فى تقديم نظريات نقدية جديدة فى تلك الفترة مثل «البنيوية»، و«البنيوية التوليدية».

قلت: وماذا عن فترة عملك فى مجلة «فصول»؟
قالت: كانت المجلة بالنسبة لى نقلة كبيرة فى سعة الاطلاع، والكتابة والنشر، وكانت أول مقالة لى عن يوسف إدريس، وقد استقبل الواقع الثقافى هذه المجلة بحفاوة، وكتب فيها كبار النقاد العرب، وبرزت أسماء نقاد من أهم نقادنا المعاصرين ومنهم: شكرى عياد، وصبرى حافظ، وعبدالغفار مكاوى، وأمينة رشيد. وأضافت: ومن خلال هذه المجلة استطعت عمل حوارات مع كبار كتاب مصر، مع نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس، ولويس عوض، وكانت لديهم جميعا تجربة غنية جدا، ولم يبخلوا بخبراتهم الأدبية والثقافية التى كانت تتجسد فى حوارات نشرتها على صفحات مجلة «فصول».
وتتذكر حواراتها مع نجيب محفوظ فتقول عنه:
محفوظ شخصية متعددة الجوانب، لديه خبرة إنسانية وثقافية وحضارية عميقة جدا، مزيد من الجانب الإنسانى والثقافى، روح مصر أصيلة، كان يتحدث ببساطة وانطلاق، وعمق، إنه نموذج للإنسان الذى يوظف موهبته فنيا وأدبيا.
أما توفيق الحكيم فكان دائما ما يحكى لى عن ذكرياته وأعماله، والمشاكل التى واجهها عند تأليف أعماله. وقد تعلمت منهم جميعا أن النجاح والشهرة ليست نهاية الطريق، لكن المسار الطويل لا ينتهى، ويتضمن الرغبة فى التجديد، والإبداع، ولمس الجوهر الإنسانى.
قلت: وماذا عن رئاستك لتحرير مجلة «سطور»؟
فأجابت: كانت المجلة تهتم بقضايا ثقافية عامة بشكل جاد، وكان لها وجود فى الساحة الثقافية، وكانت د. فاطمة نصر هى رئيسة مجلس إدارة المجلة، وصاحبتها.
وقد رأست تحرير المجلة فحرصت على التنوع والدقة، وتوقفت المجلة بعد سنتين وأحببت العمل بها، خاصة التفاعل مع عمل يصدر فى مواعيد دورية محددة، والتعامل مع أجيال شابة موهوبة.

• عطر الرحلة
• قلت لها: وماذا عن عطر الرحلة؟ ذلك الرحيق الخاص الذى يميز رحلتك الإبداعية؟
• فقالت: عندى قناعة أن الأدب لا ينفصل عن الواقع الذى نعيشه، والكتابة الأدبية تعطيك الفرصة لاكتشاف عوالم أخرى مثل مجالات الفنون الأخرى مثل الفن التشكيلى وفن الموسيقى، وربط المعمار الفنى للعمل الأدبى بالحياة، والشوارع، والحارات والصحارى، وكلما كان عند الكاتب رؤية واضحة لاستكشاف اليومى، والمستعصى يكون له القدرة على تمثل دور الإنسان فى الحياة، ورؤية الكون، وعظمة الخالق.
• رحلة الكتابة كما تراها اعتدال عثمان رحلة اكتشاف، رحلة بغير وصول، زادها اللغة، والخيال، والحلم بعالم أفضل، عالم تتحقق فيه إنسانية الإنسان بالحرية، والكرامة والعدل.