الجمعة 6 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الناس جرالها إيه؟! «1»

الناس جرالها إيه؟! «1»

فى زحام الحياة المعاصرة، ومع تسارع وتيرة التكنولوجيا والانفتاح الهائل على العوالم الافتراضية، صار الإنسان أشدّ وحدة من أى وقت مضى، رغم كثافة العلاقات وتعدد وسائل التواصل. تبدو المفارقة مذهلة: كل شىء يدور بسرعة، وكل شىء متاح بضغطة زر، لكن المشاعر صارت أبرد، والقلوب أبعد، والخيبة أكثر حضورًا من الوفاء. فما الذى تغيّر؟ ولماذا اختلفت نوعيات البشر وتبدلت ملامح العلاقات؟ وكيف انتشرت الخيانة على حساب الإخلاص، والأنانية بدلًا من العطاء، والسطحية بدلًا من التواصل الحقيقى؟



منذ فجر التاريخ، كان الإنسان كائنًا اجتماعيًا، يسعى إلى الألفة ويجد فى التواصل معنى لوجوده. العائلة، القبيلة، الجماعة، كلها أشكال من روابط صاغها الإنسان لحمايته ومنحه الشعور بالانتماء. لكن اليوم، نعيش أزمة قيم حقيقية.وأصبح «الذكاء العاطفى» مرادفًا للمراوغة، و«الحرية» مبررًا للهروب من الالتزام. أولًا: تغيُّر مفهوم الذات

أحد الأسباب الجوهرية لتحول العلاقات هو التحوّل العميق فى فهم الإنسان لذاته. فى السابق، كان تعريف الإنسان لذاته مرتبطًا بمحيطه: «أنا أب، أنا ابن، أنا صديق»، بينما اليوم صار تعريف الذات فرديًا: «أنا ما أريده، ما أشعر به، ما أطمح إليه». هذا التمركز حول الذات -رغم أنه يعكس تطورًا فى الوعى بالحقوق والاحتياجات- فإنه أضعف منطق التشارك، وزرع فى النفوس بذور الأنانية المغلّفة باسم «الاستحقاق».

ثانيًا: هشاشة التربية العاطفية

جيل بعد جيل، تراجعت التربية العاطفية، وانشغل الأهل والمربّون بتوفير الكماليات والنجاح الأكاديمى على حساب بناء شخصية متوازنة تعرف كيف تُحب وتُسامح وتتحمل.. النتيجة؟ 

 

 

 

أجيال تعرف كيف تتفاهم مع الآلة، لكنها عاجزة عن فهم مشاعر الآخر أو إدارة الخلاف. أجيال تخاف من الالتزام، وتعتقد أن الحب يمكن استبداله كما تُستبدل التطبيقات.

ثالثًا: سيطرة الصورة على الجوهر

مع هيمنة مواقع التواصل، أصبحت العلاقات تُقاس بما يُرى لا بما يُعاش. «بوست» يحدد موقفًا، و«لايك» يُعتبر دليلًا على الود، و«أن ريدى» علامة تجاهل. كل شىء صار علنيًا، قابلًا للحكم والقياس والتقييم اللحظي، ففقدت العلاقات عمقها، وبدأ الناس يفضلون العلاقات السريعة المؤقتة على حساب تلك التى تتطلب وقتًا وجهدًا وصدقًا.

رابعًا: الخوف من الانكشاف

يعيش كثيرون اليوم فى حالة من الدفاع الدائم عن أنفسهم، خوفًا من الجرح أو الرفض أو الخيانة. فيرفضون الاقتراب الحقيقي، ويلوذون بالسطحيات، وينسحبون عند أول خلاف. هذا الخوف المبطّن جعل الخيانة أسهل من المواجهة، والانسحاب أكثر راحة من الصبر، وقطع العلاقة أسهل من إصلاحها. فالقلوب المُتعبة لا تحب من عمقها، بل تحب لتنجو.

خامسًا: تآكل المعنى

حين يفقد الإنسان المعنى الأعمق للعلاقات -الصداقة كأمان، الحب كالتزام، الزواج كشراكة روحية- يتحول كل شىء إلى عقد مؤقت. أصبح الكثيرون يدخلون العلاقات بعقلية المستهلك: ما الذى سأكسبه؟ ماذا سأستفيد؟ وإن لم أستفد، لماذا أستمر؟ وحين تغيب القيم الروحية، يختل الميزان، فتغيب التضحية، ويتراجع العطاء، وتُصبح الخيانة مجرد «خيار»، لا خيانةً فعلًا.

فى هذا الجزء الأول، تناولنا أبرز التحوّلات التى مسّت جوهر العلاقات الإنسانية، والإجابة عن سؤال: لماذا تغيّرت؟ لكن رحلة الفهم لا تنتهى هنا، ففى الجزء الثانى ننتقل إلى السؤال الأعمق: لماذا أصبحت الخيانة أكثر من الإخلاص؟ وكيف تغيّرت معايير الولاء والصدق فى زمن التحوّلات السريعة؟