الأربعاء 21 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ومن لا يحب إنجى أفلاطون؟!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

فعلا.. من يمكن أن يكون قد عرف إنجى أفلاطون ولم يقع فى حبها؟!

لا أقصد الغرام.. ولكن الحب الذى يجمع أفراد الأسرة أو أعز الأصدقاء..أو زملاء الكفاح الوطنى.. أو عشاق الفن التشكيلى.

وهى من علامات الفن التشكيلى فى مصر ومن رائدات الكفاح الوطنى.. وتحرير المرأة.. تعرّفت عليها عندما دخلت كلية الفنون الجميلة سنة 1964 وكنت مهتمًا بتتبع الحركة التشكيلية المصرية حاضرها وتاريخها ورموزها.. وكانت هى واحدة من الرموز فى ذلك الوقت.

 

 

 

 شهدت أحد معارضها وتحدثت إليها فقد لفت اهتمامى أنها الوحيدة من بين من رأيت أعمالهم من الفنانين وقتها، التى تعتمد النهج السيريالي.

ويبدو أن اهتمامى بأعمالها وأنا مجرد تلميذ فى التاسعة عشرة من العمر بينما هى فى ضعف هذا العمر، أثار دهشتها وإقدامها على مواصلة الحديث معى على الرغم من أنها مشهورة بقلة الكلام وكثرة التأمل. والحقيقة أننى كنت مندهشا من لقبها الغريب «أفلاطون».. ومندهشا أكثر برقتها الفاتنة وجمالها المريح وأناقتها وثقافتها.. وجديتها المتناهية عندما يتعلق الأمر بفنها وقناعاتها الفكرية.

وهى جدية محببة، لأنها ليست جامدة أو حادة أو مغلقة، أو متجهمة. 

 «مصرية مية فى المية»

 فى شرحها لقصة لقبها «أفلاطون» الذى أبديت دهشتى منه متسائلا عما إذا كانت لها أصول يونانية تربطها باسم الفيلسوف الإغريقى العملاق؟

كانت تضحك وهى تؤكد لى أنها «مصرية مية فى المية».. أما الحكاية فهى أن جدها الأكبر حسن الكاشف كان مشهورا عنه منذ شبابه - عندما كان يدرس فى المدرسة الحربية - كثرة المناقشة والأسئلة والتفلسف والتنظير، ليس مع زملائه فقط ولكن مع معلميه الذين أطلقوا عليه وصف «أفلاطون».

وجاء اسمه لدى تخرجه حاملا لقب «أفلاطون» الذى اعتمده محمد على باشا، وقد عين فيما بعد وزيرًا للجهادية والبحرية فى عهده، باللقب نفسه ومن هنا حمل كل أفراد العائلة من وقتها هذا اللقب، ونسينا لقب « الكاشف». 

ووالدها واسمه حسن أيضا، كان يحمل لقب «أفلاطون» مثل كل أفراد العائلة وكان عميدا لكلية العلوم قبل رحيله.

 وحكت لي، أو ربما عرفت ذلك من اطلاعى على مذكراتها، أنه بعد ولادتها بقليل انفصلت والدتها صالحة أفلاطون وهى ابنه عم الأب بالطلاق وكانت فى التاسعة عشرة من عمرها، وصحبت معها ابنتيها «بولى» الكبيرة و«إنجى» (وكان عمرها لا يتعدى عدة شهور فقط).

 

 

 

وكان لابد للأم الشابة «بنت الذوات» أن تجد عملا ومن حسن حظها أن تحمّس لها طلعت حرب ومنحها مالا يكفيها لفتح محل أزياء فى شارع الشواربي.

  على رأس القائمة

  لماذا أحكى هذه التفاصيل وأنا أستذكر هذه الإنسانة الرائعة التى أضعها على رأس قائمة طويلة من النساء اللاتى أتاحت لى ظروف دراستى وعملى وحياتى أن أتعرّف على كثيرات منهن.. مثل سيزا نبراوى وسهير القلماوى وراوية عطية (أول مصرية تنتخب عضوا فى مجلس الأمة) وعائشة راتب ولطيفة الزيات وشاهندة مقلد، ونادية لطفى وسعاد زهير وسعاد حسنى وفتحية العسال ومنار أبو هيف وسناء جميل وتحية حليم، ولا أريد أن أسترسل فى رصد أسماء بقية النساء الرائعات، فهذا يحتاج لكتاب وحده.

  أحكى ظروف نشأة السيدة   فى تقديرى المتواضع، إنجى أفلاطون لكى نرى معا كيف تطورت أمورها لتصبح أول امرأة تدخل المعتقل لأنها مشغولة بحب الوطن والنهوض به ورفع شأن المواطنين عموما والمواطنات خصوصًا.

فقد قادها حبها للرسم والفن والجمال والطبيعة إلى دراسة الفن التشكيلى وكانت مصاحبتها لوالدها فى رحلاته إلى الواحات (وهو أول من زار واحة سيوة ونوه بها) قد أطلقت بدايات موهبتها التى تجلت فيما بعد بحيث أصبحت من أهم فنانى مصر التشكيليين على مر الزمن.. وتقديرا لاهتمامها بهواية الرسم شجعتها والدتها على السفر لفرنسا لتدرس الفن.

 لكنها رفضت أن تغادر مصر، وتغيب لخمس سنوات، وفضلت الانضمام إلى مجموعة من الفنانين المصريين المتمردين هى جماعة «الفن والحرية» التى تضم كامل التلمسانى وجورج حنين ورمسيس يونان وفؤاد كامل ومحمود سعيد.

كانوا من متعددى المواهب يجمعون بين الرسم والنحت والشعر والأدب.

 وكانت الجماعة رائدة ليس فى الفن التشكيلى فقط بل فى الأدب والفكر والحياة الثقافية والسياسية فى مصر.

وأعتقد أن انضمامها لهذه الجماعة فى سنها المبكرة كان أهم ما شكل شخصيتها الفنية والفكرية ففى سن الثامنة عشرة اشتركت فى معرض الجماعة الثالث سنة 1942 وكانت أصغر فنانة يتردد اسمها بين الكبار.

 

 

 

رفضت باريس

يبدو أن روحها المصرية هى التى دفعتها لرفض الدراسة فى فرنسا على الرغم من أنها كانت تتكلم الفرنسية وتجيدها بحكم الدراسة فى الليسيه ولا تجيد العربية، وتجلى من وقتها أسلوبها السيريالى القريب من أجواء الأحلام وهو محاولة للتحرر من قيود الواقع، وليس محاكاة لتيار السيريالية الذى ظهر فى الغرب وقتها.

لكنها فى مذكراتها تشير إلى أن رفضها الغياب لسنوات فى فرنسا كان بسبب اتجاهها المبكر نحو الارتباط بالحياة العامة فى مصر واستعدادها لحياة جديدة يشغلها النشاط السياسى والاجتماعى.

والسيريالية عندها هى التمرد وعن التمرد تقول فى مذكراتها:«أدركت لأول مرة، ولم أكن قد تجاوزت الثانية عشرة ربيعا، أن التمرد حالة ضرورية للتصدى فيما بعد للظلم الواقع علىّ. وقررت أن أبدأ. ومن هنا أستطيع أن أقرر دون فخر ودون تواضع، أن التمرد كان السمة التى لازمت حياتي».

من أين جاء هذا الشعور المبكر بالتمرد؟

تقول:« أصر أبى على أن يدخلنا أنا وأختى مدرسة «القلب المقدس»..

.  لماذا؟.. لأنه كما أعلن يخاف لأن ننشأ مثل أمنا ونسير على دربها فى الاستقلال والعناد، وأن نتعود على الترف والدلال مثل باقى بنات الذوات... 

كرهت بكل شعورى ووجدانى تلك المدرسة، شعرت أنها أقرب إلى السجن. 

كرهت القيود على حريتى والعيون التى ترصد حركاتى وسكناتي، وتدين كل ما أفعله، لم أكن قد تجاوزت الاثنى عشر ربيعا. 

كنت على وشك أن يصدر قرار بفصلى نهائيا من المدرسة. أخرجتنى أمى من المدرسة، وانتقلت من كابوس الراهبات إلى مدرسة الليسيه».

فى الليسيه عاشت إنجى الحرية والمنافسة والانطلاق، حيث السماح بمناقشة الأفكار الفلسفية فبدأت تقرأ فولتير وجان جاك روسو وسان سيمون وغيرهم من فلاسفة الثورة الفرنسية وما قبلها.. وفى هذه المدرسة ظهرت بوادر موهبتها الفنية كرسامة.

ولا أريد هنا أن أحكى قصة حياة هذه المرأة المصرية التى لا مثيل لها بين الشخصيات النسائية جميعا.. فالقصة طويلة ومثيرة للتأمل وليتنا نجد من يهتم بإعادة نشر مذكرات إنجى أفلاطون، لتنير الطريق أمام الأجيال الجديدة من البنات والشبان.

لكن من المفيد أن نعرف أنها مثلا وحتى سن السابعة عشرة لم تكن تجيد سوى اللغة الفرنسية وعندما أرادت إتقان العربية حتى تتمكن من التواصل مع المجتمع والناس اعتمدت على شاعر العامية المصرية الأول فؤاد حداد الذى علمها اللغة العربية.

ونعرف أنها كانت من قيادات الطلاب فى مصر والعالم حيث شاركت فى مؤتمر الطلاب العالمى الذى عقد فى براغ سنة 1946 وأعلن يوم 21 فبراير من كل عام يوما عالميا للطلاب تخليدا لكفاح طلاب مصر ودول أخرى من أجل الاستقلال والتخلص من الاستعمار وإطلاق حرية التعبير وتحرير التعليم من المفاهيم الاستعمارية..

ومن أطرف ما روته إنجى أفلاطون أنها كانت فى هذا المؤتمر العالمى فى صحبة شابة أخرى هى سعاد زهير التى عرفناها فيما بعد كزميلة كبيرة فى مجلة روزاليوسف.

وعملت إنجى أيضا كصحفية حيث كانت محررة شئون المرأة فى جريدة مهمة هى «المصرى».. ومن خلال عمودها فى الجريدة خاضت الدعوة لتحرير المرأة وأصدرت فى هذا الصدد ثلاثة كتب.

ومع أنها اشتهرت كفنانة تشكيلية وهكذا تعرفت عليها فى منتصف الستينيات من القرن العشرين، إلا أنها كما عرفت فيما بعد كانت من طلائع الحركة النسائية المطالبة بتحرير   المرأة وقامت مع أخريات بتشكيل منظمات نسائية عديدة كانت الحكومات المختلفة تطاردها وتغلقها وتعتقل إنجي..

وعانت هى كثيرا بسبب اهتمامها بحقوق الفقراء والعمال والفلاحين رغم نشأتها وأصولها.. 

وانضمت لمنظمات وأحزاب سرية واعتقلت - وكانت أول مصرية تعتقل لمدة خمس سنوات بسبب المطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية والحرية السياسية للمصريين- كان ذلك فى عام 1959 ضمن حملة النظام الحاكم على التقدميين والاشتراكيين والشيوعيين.

وتروى إنجى أفلاطون فى مذكراتها كيف أنها فى سجن النساء عرفت مصر وأهلها والتقت بنساء من مختلف الطبقات..

 

 

 

 وكيف أن هذا المعتقل كان بالنسبة لها أكاديمية تعلمت فيها الكثير عن المصريين وعن أهمية دورها كفنانة تشكيلية ورائدة نسائية تطالب بالحرية للمرأة والرجل والمجتمع ككل.. 

لقد كنت ومازلت مثل العديد من الرجال والنساء، من محبى إنجى أفلاطون.. ومن لا يحب إنجى أفلاطون؟!                         وفى الأسبوع المقبل نواصل