الجمعة 6 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

محمد حمام الفنان عاشق «بيوت السويس»

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

هذا إنسان لا تملك إلا أن تحبه.

تعرّفت عليه سنة 1964عندما التحقت بكلية الفنون الجميلة، كان يدرس فى قسم العمارة وكنت فى السنة الإعدادية التى اخترت بعدها دراسة هندسة الديكور، فأنا وهو سنكون مهندسين.

وعرفت منه أنه جاء ليكمل الدراسة التى انقطعت لمدة خمس سنوات أمضاها فى معتقل الواحات.

هذا الشاب الأسمر النحيل النوبى.. حكى لى أن والده كان يعمل فى القصر الملكى قبل الثورة وكان يحكى له عن أجواء الحكم الملكى الفاسد ما جعله فى سن مبكرة يهتم بالسياسة وينضم لحزب «حدتو» الشيوعى،  وقبض عليه واعتقل لعدة شهور قبل دخوله الكلية.. كما اعتقل بعد ذلك وهو فى السنة الأولى فى الكلية.. وعرفت منه أيضا أنه صمم على أن يكون مهندسا لأن رئيس والده كان مهندسا.

 

 

 

 

لكن ما لفت الاهتمام لهذا الشاب النوبى الخجول الهادئ الذى يدندن مع نفسه كلما انفرد بنفسه، هو أنه يمتلك صوتا غنائيا لا مثيل له فى عالم الغناء الذى نعرفه.. صوت يتمتع بأصالة الصعيد والنوبة بوجه خاص ويتداخل فيه أيضا الصوت البدوى مما ميزه عن كل ما هو موجود فى ساحة الغناء وقتها، فأصبح له فيما بعد جمهور كبير.

ولهذا وجدتها فرصة أن أدعوه للمشاركة فى نشاطات فنية وثقافية أنظمها فى الكلية كل أسبوع تقريبا وتتضمن ندوات وعروضًا مسرحية «مونو» وأشعار يلقيها شعراء جدد تعرّفت عليهم: عبد الرحمن الأبنودى وعبد الرحيم منصور وسمير عبد الباقى وفرج فودة ومجدى نجيب.

أسعده ذلك وأسعدنا أكثر، وحكى لى أنه خلال سنوات المعتقل اكتشف موهبة الغناء لديه وتعرّف على فؤاد حداد رائد شعر العامية وغنى له قصيدة كان قد كتبها بمناسبة عيد ميلاد زكى مراد أحد الزملاء المعتقلين.. وتعرّف أيضا على الشاعر الشاب مجدى نجيب زميله فى معتقل الواحات.

خلال حفلاتنا التى شارك حمام فيها، تعرّف على عبد الرحمن الأبنودى والشعراء الجدد، الذين أصبحوا فيما بعد أكثر من كتبوا له الأغانى. 

وفى عام 1968 صمم مكتشفه أستاذنا حسن فؤاد على أن يرتب له الاشتراك فى حفل «أضواء المدينة» وكان قبلها قد قدّمه فى حلقة من برنامجه التليفزيونى «الفن والحياة» فكانت أول مناسبة ينطلق فيها ويتعرّف فيها الجمهور على هذا الصوت القريب جدا من الناس ومشاعرهم الحقيقية خاصة منها الوطنية والسياسية.

وأقيم الحفل فى سينما قصر النيل وغنى محمد حمام كلمات مجدى نجيب ولحن الموجى..ومثل اتجاها غير مسبوق فى عالم الأغنية المصرية والعربية.

وطبعا كان حمام مفاجأة لكل نجوم الغناء فى مصر.. ولإخفاء اندهاشهم وصدمتهم، تجاهلوه.. لم يرحب به أحد.. وربما عمل بعضهم سرّا على عرقلة وصوله إلى الجمهور العريض، فلم يتحقق لأغنياته الوصول إلى الإذاعة والتليفزيون إلا متأخرا وفى المناسبات الوطنية فقط.

 ولم ينس حمام أنه مهندس معمارى،  فقام بتنفيذ عدة مشاريع ثم تطور الأمر فافتتح لنفسه مكتبا كمهندس ومقاول معمارى،  ونفذ بعض مشروعات حكومية، مع استمراره فى الغناء الذى وضعه على خط العالمية من خلال المشاركة فى مهرجانات فنية فى دول العالم المختلفة فرنسا وإسبانيا ودول أمريكا اللاتينية.

ولعل محمد حمام هو المطرب المصرى الوحيد الذى حقق هذه الدرجة من العالمية بحيث أصبح مدعوا باستمرار فى احتفالات ومهرجانات الغناء الدولية.

ومن ذكرياتى معه ومع الأبنودى أنهما عايشا شعب السويس خلال فترة حصار المدينة بعد الهزيمة فى يونيو1967 وكنت هناك.

 

 

 

أما هما فأصبحا يقيمان فى السويس طوال هذه الفترة العصيبة وكنا نشارك فرقة «ولاد الأرض» التى كوّنها الشاعر والفدائى السويسى الكابتن غزالى.. ويغنى معنا محمد حمام الأغانى الثورية المحرّضة على مواصلة المقاومة والمعبرة عن إصرار المصريين على الصمود وأسهم ذلك فى رفع معنويات الناس وجنود وضباط الجيش الذين كنا مع الفرقة نذهب إليهم على الجبهة لنغنى معا بحماس.

وانتصرت السويس على الحصار الإسرائيلى فى 24 أكتوبر من هذا العام.

يا بيوت السويس

 ورغم انتشار أغانٍ كثيرة لهذا الفنان النوبى واشتهارها بين الجمهور، حتى أن بعض المطربين الكبار أعادوا غناءها مثل «قولوا لعين الشمس» التى غنتها شادية من بعد محمد حمام. فإنه اشتهر بأغنية واحدة هى «يا بيوت السويس» التى كتبها الأبنودى ولحنها إبراهيم رجب.

وهى الأغنية التى عبّرت عن صمود الشعب والجيش فى وجه إسرائيل، ورفضهم للعدوان والمحاصرة والتدمير، وكان حمام يغنيها وسط حشود الناس وجنود وضباط الجيش وطاف بها الجبهة وشارك فى التمهيد لحرب الاستنزاف التى هيأت الأجواء لنصر أكتوبر 1973.

كان «كل العيون على بيوت السويس» عنوان التحقيق الذى كتبته فى «صباح الخير» وقتها من داخل الحصار.

والطريف أن هذه الأغنية بالذات أذيعت بعد تسجيلها بساعات على غير المعتاد لكونها عزفت على الوتر الحساس للشعب والجيش فى مصر كلها حيث تقول بعض كلماتها:

يا بيوت السويس       يا بيوت مدينتي

أستشهد تحتك          وتعيشى انت 

أستشهد والله           وييجى التاني

وأموت ويا صاحبى   قوم خد مكاني

دى بلدنا حالفة

ما تعيش غير حرة

وكان طبيعيا أن تصل شهرة زميلى فى الكلية محمد حمام إلى قمتها، وكان يجوب أنحاء مصر يغنيها ويجوب جبهة القتال ليرفع بها معنويات الضباط والجنود.. ومع ذلك كان ملحوظا لدينا نحن محبى هذا الفنان، أنه غير مقبل على فكرة التحوّل إلى نجم.. بل إنه فى مرحلة تالية شارك فى تأسيس حزب «التجمع» اليسارى ورشح لعضوية البرلمان عن الحزب.

وعلى الرغم من ذلك، صدر قرار فى سنة 1972 بمنع إذاعة أغانى محمد حمام، لأنه شارك فى التوقيع على العريضة التى وقعها أكثر من مائة كاتب وفنان وقيادى وقمنا بجمع هذه التوقيعات وتحمّس توفيق الحكيم فكتب ديباجة العريضة التى تطالب السادات بالحرب واستعادة الأرض المحتلة وإزالة آثار العدوان الإسرائيلى.

ولا أنسى أن الشىء نفسه حدث مع يوسف إدريس لتوقيعه العريضة، حيث صدرت الأوامر بفصله من عمله ككاتب فى «الأهرام».

فماذا فعل حمام؟

غادر البلاد إلى الجزائر ليعمل كمهندس معمارى،  وأمضى عشر سنوات متنقلا بين بلاد العالم مشاركا فى مهرجانات الأغنية العالمية.

وكنا نتابع أخباره بأسى فكيف تحرم مصر من أحد الأصوات المصرية الأصيلة التى لا تتعامل مع الفن كبزنس.. ونجومية وأموال طائلة ولكن كتعبير عن الروح الوطنية.

وعندما عاد بعد اغتيال السادات، شارك بالغناء وعادت أغانيه تذاع فى الراديو والتليفزيون.. إلى أن أصابتنا صدمة قوية عندما علمنا أن حمام مريض.. ولعله المطرب الوحيد- فى حدود علمى- الذى يصاب بجلطة فى المخ.

ما إن علمت قيادة القوات المسلحة بالأمر حتى قررت فورا علاجه على نفقة الدولة فى مستشفى القوات المسلحة فى المعادى.

وكان مسموحا له بالخروج ليوم واحد للنزهة ولقاء الأصدقاء.. وكنت فى زيارتى السنوية قادما من لندن عندما التقيته فى مقهى «ريش» مع عدد من الأصدقاء وكان شاحبا هزيلا لكنه حمام الطيب البسيط المحاط بكل الحب من الجميع.

وكانت هذه آخر مرة ألتقيه فيها.. فبعد عودتى للندن بلغنى أمر وفاة زميلى النوبى الذى كان يغنى حبا فى الناس والوطن والمعانى النبيلة.

وقام رئيس الجمهورية بنفسه بنعيه فى التليفزيون سنة 2007 وحكى عن دوره فى رفع معنويات الجميع خلال سنوات الهزيمة وسنوات حرب الاستنزاف، وتم تشييع جثمانه فى جنازة عسكرية كبيرة ملفوفا بعلم مصر.. وفى السويس قررت المحافظة تنكيس الأعلام تكريما لذكراه ووطنيته.

 ونقلت طائرة عسكرية جثمانه إلى أسوان حيث كان يعيش مع أهله وأطلقت المدفعية 21 طلقة فى وداع عسكرى حيث دفن هناك.

وكما قلت فى بداية حديثى هذا فـ«محمد حمام» إنسان لا تملك إلا أن تحبه.. وهذا النوع من البشر لا يموت. وفى الأسبوع المقبل نواصل