الأربعاء 2 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
مشروع وطنى شامل

مشروع وطنى شامل

فى مجتمعات عاشت قرونًا على التمازج الإنسانى والدينى، لا تأتى الفتنة الطائفية صاخبة فى بداياتها... بل تزحف خلسة، تتسلل فى نظرات، وتعابير، ومواقف صغيرة، لكنها عميقة الأثر. الفتنة الطائفية ليست مجرد خلاف دينى أو تعارض فكرى، بل هى أزمة وعى، وأحيانًا أزمة ضمير.



ما نراه اليوم من إشارات تثير القلق، يعكس أن هناك خللًا بنيويًا لا يجب السكوت عليه. لسنا أمام حوادث فردية، بل أمام ظاهرة تتسلل عبر جدران المجتمع، وتجد لنفسها موطئ قدم فى مؤسسات يفترض بها أن تربى وتوحد لا أن تفرّق.

الفتنة الطائفية تُستخدم عبر التاريخ كأداة لهدم الدول من الداخل. إن من يزرع بذور الكراهية اليوم، يقطف ثمار الانقسام غدًا، ونحن فى لحظة تاريخية لا تحتمل الهشاشة أو التهاون. نحن بحاجة إلى التكاتف، لا التشكيك؛ إلى الوعى، لا التواطؤ بالصمت.

الأديان السماوية كلها بلا استثناء جاءت لتوحيد الإنسان بالإنسان، لا لفصله عنه. فى القرآن الكريم نقرأ: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (الأنعام): 164، أى لا يؤخذ البرىء بجريرة غيره. وفى الإنجيل، نقرأ قول السيد المسيح: «كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم» (متى 7:12). هاتان الآيتان وحدهما تكفيان لنفهم أن كرامة الإنسان فوق كل انتماء، وأن احترام الآخر ليس تفضلًا، بل فريضة.

إن إشعال الفتنة باسم الدين هو خيانة للمقدس، وإهانة لما تنادى به الكتب السماوية من قيم المحبة والتسامح. وليس هناك ما هو أخطر من تحويل الدين من وسيلة للتقارب إلى أداة للفرقة.

علينا أن ننتبه: الفتنة لا تبدأ بحوادث كبيرة، بل بأحاديث جانبية، وتعليقات على مواقع التواصل، وصور نمطية تتكرر فى الوجدان العام. ما لم نكسره اليوم فى أذهان الناس، سيتحول غدًا إلى قوانين عرفية تمنح الشرعية للتمييز، وتبرر الكراهية.

ولنكن صرحاء فبعض وسائل الإعلام أحيانًا تتورط فى تأجيج الفتنة، حينما يركز على ما يفرق لا ما يجمع. والتعليم أيضًا يتحمل مسئولية حين لا يغرس فى عقول أبنائنا فكرة الانتماء المشترك، والعيش الواحد، والمواطنة المتساوية.

ما العمل؟

أولًا: الإعلام يجب أن يتحول من مرآة للواقع إلى أداة إصلاح، بأن يتبنى خطابًا وطنيًا مسئولًا، يسلط الضوء على قصص التعايش، ويواجه بقوة كل خطاب تحريضى مهما كان مصدره.

ثانيًا: فى المدارس والجامعات، يجب إعادة النظر فى المناهج، بحيث تُعلِّم الأجيال القادمة أن الدين لله والوطن للجميع، وأن التنوع الدينى هو مصدر قوة لا ضعف.

ثالثًا: دور العبادة، سواء الكنائس أو المساجد، يجب أن تكون منابر توعية لا ساحات تعبئة. الكلمة التى تُقال من على المنبر لها أثر عميق، وقد تصنع جيلًا متسامحًا أو آخر مشبعًا بالرفض.

رابعًا: القانون لا بد أن يُفعّل بصرامة ضد كل من يروّج للكراهية أو التمييز الدينى، فالتسامح مع المحرّضين يفتح الباب واسعًا لتكرار الفتنة.

أيضًا إلغاء خانة الديانة من الرقم القومى أمر ضرورى لإثبات إرادة الدولة فى عدم التمييز.

وفى هذا السياق، لا يمكن تجاهل الحكم القضائى بالمؤبد على من اعتدى على الطفل ياسين، هذه القضايا يجب أن تُنظر إليها من منظور إنسانى وقانونى بحت، لا دينى. فالعدالة لا تفرّق بين مسلم ومسيحى، بل تزن الأمور بميزان الحقوق والكرامة الإنسانية.

نحن بحاجة إلى مشروع وطنى شامل يحاصر الفتنة من جذورها، ويُعيد للمجتمع توازنه الأخلاقى والإنسانى. مشروع لا يكتفى بالمظاهر بل يغوص إلى عمق الثقافة الشعبية، ويواجه العبارات المتداولة التى تكرّس التمييز، ويصحّحها.

فى النهاية، يجب أن ندرك أن الوطن لا يُبنى إلا على قاعدة من العدالة والمساواة. وأن من يحب وطنه لا يترك النار تشتعل تحت قدميه وهو يبتسم. الفتنة ليست قدَرًا، بل خيارًا. والتصدى لها هو واجب كل وطنى شريف.

دعونا نحرس هذا الوطن لا فقط بالجنود والسلاح، بل بالكلمة الطيبة، والموقف النبيل، والوعى المستنير. فربما لا نستطيع أن نمنع الكراهية من أن تولد، لكننا بالتأكيد نستطيع أن نمنعها من أن تكبر.