الخميس 15 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عزف منفرد على مرآة

بكل هذا الشوق أسأل فصوص الياسمين، مسك هذه الرائحة الفواحة فى سكون.. هل كانت لك هذه اللحية الرمادية منذ سنوات؟



.. تغرّب هذه اللحية وجهك عنى، تتهدج أنفاسى وأنا ألاحق ملامحك فى مرآة السيارة.. عيناى تهتزان كبندول الساعة، كاللعبة التى تعلقها أمامك وتتأرجح أمامى فى حركة رتيبة لامبالية.

.. فى المرآة أرسم سؤالى المهم بعينين محدقتين: هل هو أنت؟!

بجناحيه يضمهما إلى جانبيه، ويفرد يديه فتخرجان كطائرين أبيضين، تحتضنان مقود السيارة. دلنى على علامة صغيرة، على شامة ما تدلنى عليك.

.. لا شىء سوى الصمت، صوت الإطارات وهى تصطدم بالأسفلت.. هل ستنزل من السيارة، وتفتح لى الباب كما كنت تفعل فى الزمن الخلىّ؟ أقصد كما كان يفعل هو؟

هل ستنحنى انحناءة صغيرة، وتقبّل يدى، أشم فى رائحة الهواء عطرك أم تراه عطره؟ فأحمم به ملابسى ليذكرنى بك فى كل وقت.

وهل للوقت وقت؟! بعد كل هذا الإطراق والصمت؟ هل لهذه اللحية دلالة ما؟ لماذا تطلقها الآن كسرب طير رمادى.. كسلا من رغوة الصابون وحد الموسى أم تعبر عن تغير جديد؟ فكرة تجلت لك ذات ليل، هل تصوّفت وعاهدت شيخا على الطاعة والتأسى؟

.. تتأرجح اللعبة أمام عينى، وفى المرآة أراها زجاجة مسك صغيرة شفافة، فأرنو إليها، وهى تضىء كمشكاة، قليل من عطرها يحيينى، فهل تمنحنى قطرة منها.. من زيتها العميق؟

.. تتأرجح ثانية فأراها كوكبا صغيرا.

يقولون إن على المريخ حياة، فهل هى قطعة من المريخ؟ وهل حقا النساء من «الزهرة » والرجال من «المريخ»؟

.. أنا وأنت واللعبة.. الزجاجة والكوكب الصغير، وحالات من الصمت.. تضايقنى أنفاسى فأحبسها فى صدرى، أرهف السمع فقط لفصوص الياسمين لهذه اللحية وأنت تتخللها بأصابعك، لم تكن لك من قبل ثم ها هى تكون.

 

ريشة: مها أبوعمارة
ريشة: مها أبوعمارة

 

أرقبها، وأحدّق فى مرآة السيارة، «هل أزرى بك الدهر بعدنا»؟!

فتقول فى صمتك العميق: «بل أنت لا الدهر».

- تغيّرت؟

فتهمس: وأنت كما أنت؟

فأعض على شفتى

.. أقسمت مئة ألف مرة بينى وبين نفسى أنى سأقاطع الشعر فى عينيك، هذه الأبيات التى تتراص بموسيقاها فى علب صغيرة من القطيفة الحمراء، وتحدّث أصواتها الخاصة بين الحركة والسكون أقول: فعلن فتقول: فعلن!

أهمس: مستفعلن فتهمس: مستفعلن تضيق علىّ موسيقاى فأهتف بك:

متفاعلن، فتهتف فى فضاء الكون الرحيب:

متفاعلن

أدق بكعبى على الأرض كما لو كنت فرسا حرونا: فاعلاتن

فتدق بكعبيك راقصا رقصة الشعر والجوى: فاعلاتن.. فاعلاتن!

أقول: لا أحتمل رقصتنا معا على هذا 

أقول: لا أحتمل رقصتنا معا على هذا النحو الصامت فترقص وحدك

- أرجوك.. هذه الموسيقات أعرفها.. علمنى إياها نور الدين محمود.

.. والجلوس تحت ظل الشجرة.. ذهابك لتحضر كوبين من القهوة، فتحضر لى ثلاثة أكواب حتى لا تمس حرارتها يدى، وتكتفى أنت بكوب واحد تحتمل حرارته فى سكون.

تمس شفاهى الكوب فتمس شفاهك أثر القهوة على فمك، أحترق بها فتحترق ألتذ فتلتذ.

أتأمل عناق أوراق الشجر فتقرأ نظرتى:

- آه لو كنا ورقتى شجر.. فى عناقهما يهمس الحب: كونا فنكون أغضى وأهمس: نور.

.. أعد الطيور السمر التى تحلّق فى سماء الغروب البرتقالية وأقول: لى فيها طائر غريب

- لك فقط؟

فأقول: ربما لنا طائران غريبان تعارفا فاقتربا، كل واحد منا له طائر، يلزمه الحب بالحب، وفى عنقه طوق فل صغير تبتسم، وتخرج من جيبك عقد فل، به فى المنتصف وردة حمراء

- هو لك

أضحك للمفاجأة، وأقول: ربما لو طلبت بيضة نيئة وأخرى مسلوقة لأخرجتهما من جرابك! وربما سرب من مناديل، وسرب يمام.

تضحك: «شايفانى حاوى حضرتك»؟

فأجيب: بالطبع لأ!

فتغنى: «واللى انكتب جوه فى قلبك أتاريخ لغيرى مش ليا»!

- والآن أسأل فصوص الياسمين.. هذه اللحية متى أصبحت لك؟ منذ متى نبتت شجرتها على ذقنك الخضراء؟ والمهم.. المهم جدا.. هل هو أنت حقا نورالدين محمود؟

اللعبة تتأرجح فى المرآة.. أهمس:

- افتح سدادة الزجاجة لينفطر العطر فأعرفك.. أصعد بى إلى هذا الكوكب الجديد، على هذه القطعة من المريخ، فى هدأة هذا الليل فأصدق أنك أنت.

أحبس أنفاسى، وأتلقى ملامحك فى هدوء كقطع هائمة من «مارشميللو» marshmellow على وجه كوب النسكافيه.

تحت الشجرة بايعنا الحب على عناق أوراق الشجر، وطيور الغروب على أن نسمى طائرين باسمينا، فتقول: سأكتب اسمى واسمك بالحروف الأولى، وتاريخ اليوم، ولن أكتب السنة ليبقى الحب عبر السنين.

فأقول: مازلت أشاهد العبارة مكتوبة على جدران مشفى العباسية!

فتضحك طويلا حتى تمتلذ عيناك بالدمع:

- وأنا أراها كل يوم: «بحبك - M+N 27/12».

- لازال المارة، وركاب الباصات والسيارات يقرأونها فيتوقفون، يقولون: مجنونان تحابا ذات يوم اخترق جدار الصمت،. وصوت العجلات وصوت محرك السيارة، وأقول لك:

- لو سمحت توقف عند مشفى العباسية!

وأنتظر رد الفعل، هل سترتعد كفاك على مقود السيارة، وتخبرنى بالفجوة الزمنية بين لقائنا الأول، ولقائنا هذا الأخير، ومتى هجرت الطب والشعر؟

ولم يعد أمامك سوى الطواف بالسيارة، وانتظار الـRating فى نهاية كل رحلة، فيعطيك من يعطيك ثلاث نجوم أو أربع وأعطيك أنا خمس نجوم حتى قبل إتمام الرحلة!

عند مشفى العباسية حدقت فى العبارة من بعيد، وقد موهتها الأمطار، وضربات الشمس، وصواعق الرياح، لكن ظلالها لاتزال هناك.

اختلست نظرة للحائط، تأملت عينيك فى مرآة السيارة، تخللت أصابعك فصوص الياسمين، تضوعت الزجاجة الصغيرة بالعطر، حلّق طائران من طيور الغروب فى مساحة برتقالية، استدار كوكب صغير على الأرض واستقر

لمحت ابتسامة على شفتيك على وشك أن تولد، نزلت من السيارة، وابتعدت قليلا، وعلى حائط المشفى أعدت ترسيم الحروف وحفرها، وتركت التاريخ مفتوحا على كوكب فهتفت وسمعتنى الدنيا:

- نور.. نور الدين محمود