«صلاة القلق».. لغة شعرية.. وأكثر من راوٍ

د.هانى حجاج
تفوز اليوم رواية الأديب المصرى محمد سمير ندا (صلاة القلق) الصادرة عن دار نشر مسكيليانى التونيسية بالجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» لعام 2025، تقع الرواية فى 356 صفحة، صدرت لندا من قبل روايتان هما بوح الجدران ومملكة مليكة، وهذه هى روايته الثالثة وأول رواية لكاتب مصرى تفوز بالبوكر منذ سنوات طويلة.
استيقظ سامسا بطل الرواية الشهيرة «المسخ» كافكا ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة عملاقة، لكن الشيخ أيوب المنسى يستيقظ صباح اليوم ليجد رأسه غير موجود بين كتفيه! هكذا يبدأ الفصل الأول: «سهم الله فى عدو الدين» وهى عبارة كانت دارجة قديمًا كانوا يصفون بها الشهب التى يُفترض أنها تسقط من السماء ترجم الجن.
يحدث أمر جلل فى (نجع المناسي) كأن القيامة قد قامت. هذا الانفجار العظيم قد تسبب فى تشوّه للرجال والنساء فصارت رؤوسهم كالحجارة الملساء بلا شعر وبلا حواجب وذلك عندما كان جميع القرويين نيامًا كالأموات فى غفلتهم وعندما يستيقظون يحكون لنا أوجاعهم فى تلك الرواية متعددة الرواة حيث أغنيات عبد الحليم حافظ تتصدر بدايات الفصول وبدأت بمقطع من أغنية (المسيح) التى غناها فى لندن عام 1967!
لدينا ثمانية حكايات تقريبًا بلسان أصحابها وخمسة فصول يحكيها الراوى العليم، يتحدثون جميعًا بلغة راقية حسنة البيان ما قد يحسبه البعض نقيصة لكننا نتجاوز عنه عابرين جسر اللغة إلى مضامين النص ذاته.
تدور رحى حرب ضروس منذ نحو عشر سنوات، ولم تصل بعد إلى حدود هذه القرية فى صعيد مصر. ففى عام 1977، وقع حادث مدمر عندما يسقط جسم غريب، يشبه نيزكًا أو صخرة نارية أو سخام قمرًا صناعيًا أو سهمًا أُطلق على عدو الله، سير الحياة بشكلها الساذج الآمن. انتشر وباء بين السكان، مما تسبب فى تساقط شعرهم وحواجبهم، وبدوا كالزواحف والمخلوقات الفضائية.
انتشر بينهم الفزع والتوتر والهلع والرعب والخوف من المجهول. انتشر الشك بينهم والقلق، وأصبح كل فرد يخاف من الآخر، حتى من أقرب الناس إليه. لم تعد حياتهم كما كانت قبل الانفجار. قبل هذا الحادث، كانت القرية محاطة من الحدود بحزام من الألغام، ولم يتمكنوا من عبوره حتى نهاية الحرب.
وبعد ورود تقارير متكررة عن محاولات العدو التسلل إلى صعيد مصر عبر الإنزال الجوى، انقطعت عنهم كل الأخبار المكتوبة أو المسموعة. صلتهم الوحيدة بما وراء السور هى «خليل الخوجة»، الممثل الرسمى لقرية المناسى، الذى يقودها بمباركة الدولة. لا أخبار تُعرف إلا من خلاله، فهو الوسيط الوحيد بينهم وبين العالم الخارجى. هذا هو الحال منذ إعلان القائد استقالته عام 1967. الإذاعة الوحيدة معطلة منذ ذلك الإعلان، وتوقفت الصحيفة الوحيدة «صوت الحرب» عن الصدور. لم يعد يطبعها «الخوجة»، ولم يعد الأهالى يسمعون شيئًا عن مصير أبنائهم الذين لم يعودوا منذ عشر سنوات، والذين أُرسلوا إلى الحرب منذ بدايتها. لا أخبار فى نجع غريب، ولا رجل رشيد أو متعلم واحد يقرأ كلمة واحدة.
«أيوب المنسى» هو نموذج لمشايخ الدين الغارقين فى ضلالات، من ثم يعاقبه المؤلف بأننا لا نسمع له صوتًا فى الحكايات، إنه يظهر هنا وهناك ويتكلمون عنه، لكنه مثل أوهامه بلا صوت إذ يبتعد ما نعتقده فى الدين عن فقه الواقع وتكون النتائج ضبابية ثم كارثية.
عرف الشيخ قبل ليالٍ أنّ شيئًا قد تغيّر. أدرك أنّ خللًا حلَّ بنسق الحياة فى النجع، وراحت حواسُّه تبثّ شعورًا مطّردًا بخطرٍ مُحيقٍ منذ سقوط الحجر الناريّ على بعد كيلومتراتٍ من المكان. حدث ذلك قبل أماسٍ عديدة.
يومئذٍ أضاء الانفجار السماء. مزّقَ الحَجَرُ سُحبَها، ونثر النجمات فما عُدنَ يتراصَصن فى مواضعهنّ التى رسمَها الأجداد؛ خبتْ أنوارها فازداد اللّيل حلكة، وهجرت الطيورُ الناعسة أغصانَ التوت والجمّيز. وشابت أغصان الصفصاف وترنّحت سوق النخل.
فهم أيّوب أنّ ذاك الدويَّ الهائل قد يكون سببًا فى ما استجدّ على الناس من أعراضٍ مرضيّةٍ لم يعد بالإمكان غضّ النظر عنها. فقد استفحل الوباء حتّى نال من الشيخ نفسه فى غضون أيّام، هو وزوجته وبناته الخمس. أقضَّ القلقُ مضجعَ أيّوب ابن الوليّ جعفر، حتّى تشابه عندَه اللّيل والنهار. طالت اللّيالى كأنّها ليلٌ واحدٌ ممطوط. وشعر الشيخ بأنّ ثمّة أمرًا جللًا يمنع الشمسَ عن البزوغ، فظلّ يناجى الله أن يهبه كرامةً من كرامات أبيه.
الشيخ أيوب يبتدع صلاة لأهل النجع لعلها تنجيهم من القلق (وهى صلاة من اختراعه تختلف عن صلاة الخوف المعروفة، كعادته فى تحوير النصوص الدينية فهى صلاة بلا ركوع ولا سجود يتلو فيها أدعية بترتيب على هواه). نال منه الوباء، فحوّلَ رأسَه كتلةً عظميّةً جرداءَ خلَتْ من الشعر، وبدَتْ أقربَ إلى هيئة الحصى منها إلى رؤوس البشر، بينما احتفظَ جسدُه الطاعن بقوامٍ بشريٍّ يحاكى فى خموله السلاحف، من دون أن يمتلك درقةَ الوقاية. يشعرُ بأنّ النجعَ فى حاجةٍ ماسّةٍ إلى معجزةٍ مشابهة، قوّةٍ صافيةٍ خارقةٍ تعيدُ النجمَ السّاقطَ إلى موضعه فى صدر السماء، أو تردّ القذيفةَ الضالّة إلى مدفعها.
إلّا أنّ خليل الخوجة، الممثّل الرسميّ ﻟنجع المناسى، أذاعَ أمرًا آخر وهو فى مجلسه مع مريديه. ففى داره الشرقيّة -على مقربةٍ من مطبعته العتيقة التى تنقل الكلامَ المسموع إلى ورق ملموس- صرّح نقلًا عن الجهات الحكوميّة المنشغلة بحربٍ ضروسٍ تأبى رحاها أن تتوقّف عن الدوران منذ عشر سنوات، فقال إنّ السقوط لم يكن لقذيفةٍ أو صاروخ. ثمّ عادَ وأكّد أنّ الحرب لن تصلَ إلى حدود النجع المزروع فى خاصرة الصعيد، ولو طالت آمادُها عشرات السنين.
أحدث الانفجارُ دويًّا هائلًا، فخيّمَ الصمتُ على رؤوس المارّة والقُعود، ورجفت القلوب، وتوقّف كلّ شيءٍ فى تلك الصحراء المدجّجة بالألغام. لكنّ بضع شظايَا تطايرت على مقربةٍ من الدور، فأمستْ قِبلةً للناظرين وسيرةً للحكّائين. تهرب زوجة خليل الخوجة فى أمسية ما، بينما يعض ابنه (حكيم) لسانه فيقطعه، يمثل الخوجة السلطة أو سياسة الحزب الواحد خالق الأصنام والشعارات وقطع الألسنة. يكنز الخيرات ويفقر الناس.. وأيضًا يختفى صوته فلا نسمعه من بين الرواه.
محجوب النجار يحفر نفقًا ليصل إلى أرض الخلاص، بينما يتصدى زكريا النساج للسلطة فيُقتل فى موقف غرائبى يبعث فى النص عدة خطوط بوليسية. القابلة ومغسلة الموتى، وداد، تُربى الغجرية شواهى متعة النجع لكنها تقتل المواليد إذا وجدت بهم عيبًا شفقة بأهاليهم! إنها مخلوقات مشوهة تعيش فى عالم رمادى بالضبط كما تصورهم لوحة الغلاف.
يفيق النجع على صراخ «الخوجة»، وقد اكتشف أنّ تمثال الزعيم عبد الناصر -الذى انتصب ذات يومٍ فى باحة داره بينما الناس نيام- قد انشطر نصفَين يسترجع أمارات الهلع على وجوه الجميع، وقد جاؤوا يواسُون الخوجة فى التمثال. بدا الخوجة ثائرًا دامعًا، والناس مطرقُون فى خشيةٍ ومذلّة، وأصابعُ الاتّهام تتنقّل بين الوقوف والجلوس، حتّى أنهى هوَ الأمرَ حين حمل رأس التمثال وكتفَه اليمنى ذات الذراع المرفوعة، ووضعه فى صدر داره، بينما بقى نصفُه السفليّ فى موضعه؛ صنمًا بلا هيبة، ومحطّةَ انتظارٍ للطيور المتعبة.
وُضع التمثال أوّل مرّةٍ تحت ستر اللّيل، فلمّا أصبحَ الناس وجدُوه على مقربةٍ من دكّان الخوجة، تلك البقعة السحريّة التى يحجّ إليها أهلُ النجع ويطوفون حولَها يوميًّا. ظنّ بعضُهم أنّه أحد تماثيل الفراعين، لكنّ بعض الأذكياء لاحظوا أنّ التمثال لرجلٍ يرتدى حُلّةً رسميّة، ويرفع يمناه ليُحيّى جماهيرَ لا يراها سواه، ولا يسمع أصداء هتافاتها غيره.
يقول الخوجة إنّ التمثال للزعيم المُلهم، وإنّه منحوتٌ فى القاهرة، ثمّ أفادَ أنّ صانعيه مصابُو حرب. فتعجّب بعضُ السامعين من تفرّغ المُصابين لنحت التماثيل لمن زجَّ بهم فى الحرب، لكنّهم واصلوا دفعَ ربع إيراداتهم للمجهود الحربيّ كما جرت العادة، بل طالبَ أغلبُهم بتوفير الخامات والتدريب اللّازمَين لنحت تمثالٍ أكبر حجمًا فى النجع، وسمّى آخرون التمثالَ بمسخوط الزعيم، قبل أن تسرى بين الناس حكاياتٌ بطلُها تمثالٌ للزعيم مبتورُ الرأس ينشط بعد مغيب الشمس، فيغادر موضعَه ليجوب الطرقات كأنّه يتفقّد أحوالَ رعيّته!
ثمة مجهول يكتب على جدران البيوت خبايا الجيران وفضائحهم! تظهر عباراتٍ أخرى مشابهةٍ على بيت شواهى الخاوى وبيت النجّار البعيد. ثمّ راحت الكلمات المغمّسة بالكراهية تتناسل على جدران كلّ البيوت.
كلّ ساعةٍ يكتشف واحدٌ من الناس بعضَ العبارات؛ بعضها كُتب على صدر الدار، وبعضها خُطّ على حوائط جانبيّةٍ أو خلفيّة. وهكذا أصبحت كلّ الدور موصومةً بالطّلاء الأسود ذاته، مُعنوَنةً بكلمات اللّعنة والتشفّى، بما فيها بيت خليل الخوجة، ودكّانه، والتمثال المكسور حذوَ داره، بل على جدران المسجد أيضًا.
«أتساءل: كم نيزكا يستلزم الامر حتّى تتكوّن لدينا ذاكرة جديدة؟ كم قتيل ينبغى أن يسقط، وكم حربا يتوجّب أن تاكل أبناءنا حتّى تروى العجائز تاريخا مغايرا لما يروينه اليوم؟ متى يكون لدينا تاريخ يقفز فوق يِير السيل والشهب والحرب والغرق، وحكايات تؤسّس لذاكرة تُسقط من صفحاتها صورة الشّيخ الوليّ، وخليا الخوجة وتمثال زعيمه الجائل بين العقول المذعورة؟ متى يصبح لدينا جريدة تعجّ بصور ملوّنة للأطفال فى الغيظان، والصبايا فى الأعراس، جريدة تنقل لنا صور فلسطين المحرّرة، وتغيب عنها صور الحرب والدبّابات، ومفردات القتال المقدّس!»
تعاظم ماردُ القلق على الرغم من جهل الغالبيّة بالقراءة، لكنّ العارفين منهم تطوّعوا لفكّ شفرة ما كُتِب على الجدران. أُقفل كلّ بابٍ على ساكنيه، ومَنعَ الأهالى الصغارَ من مغادرة الدور، بينما راحت النساء يتبادلنَ نظرات العداوة، وحَدّدت كلٌّ منهنّ لنفسها مساحةً من ترعة النجع لا تشاركها فيها جارة، ولا يسبح فيها طيرٌ من غير طيورها. بينما راح الرجال يسعون بين حقولهم وورشهم، وقد تسلّح كلٌّ منهم بما يحميه من ذلك الآخر الذى لا يعرفه، لكنّه يثق بأنّه قريب.