
د. رانيا يحيي
فلافيا أورساتى.. أنا فيروتشى
رقيقة كالنسمة، ذات ابتسامة هادئة، تقترب منك بصدق وشفافية، تمتلك قدرة على الجذب بمحبتها وإنسانيتها، تحمل شغف العلم، وتتعاون مع الجميع، عاشقة لمصر أرضًا وشعبًا، حضارة وتاريخًا، ثقافة وفنًا، فاجتمعنا على تلك المحبة الدافئة لوطن أنتمى إليه وأكن له الكثير، وأقترب لمن يقدره، فكان لقائى الأول معها بالأكاديمية المصرية للفنون بروما عقب تولى إدارتها، إنها الصديقة الإيطالية فلافيا أورساتى مؤلفة كتاب «أنا فيروتشى» هذا المهندس المعمارى الإيطالى الشهير.
أقمنا ندوة عن الكتاب ومعرضًا مصاحبًا عن أعماله المهمة بمصر، بعدها توالت اللقاءات وامتدت الصداقة مع فلافيا هذه الشخصية الاستثنائية، ولأهمية الكتاب تعاونا مع المركز القومى للترجمة لترجمته باللغة العربية.
ففيروتشى مهندس معمارى مولود عام 1874 فى بلدة فورس الجبلية الصغيرة بمقاطعة اسكولى بيتشينو، وبعد انتهائه المرحلة الإعدادية التحق بأكاديمية الفنون الجميلة فى مودينا، وخلال تلك الفترة لم يكمل دراسته بل التحق بالتجنيد وشارك فى الحرب اليونانية التركية عام 1897، وفى تلك الأثناء تعرف على العديد من الإيطاليين المقيمين فى مصر الذين عبروا عن سعادتهم فى الإقامة بمصر وفرص العمل والبيئة الجاذبة بها. أخذ القرار وسافر لمصر فى نفس العام وأصبح أستاذًا للرسم فى مدرسة ليوناردو دافنشى بالقاهرة، والتى أدارها لسنوات عديدة، كما انتخب رئيسًا لجمعية دانتى أليجيرى، وانضم إلى الهيئة الفنية للمتحف اليونانى الرومانى بمدينة الإسكندرية، كذلك عين رئيسًا لقسم العمارة بوزارة الأشغال العامة.

ومع اعتلاء الملك فؤاد حكم البلاد، شهدت مسيرة فيروتشى تحولًا جذريًا حيث تم تعيينه كبير مهندسى القصور الملكية ورئيسًا لقصور الملك، وهو المنصب الذى استمر فيه حتى وفاة الملك فؤاد عام 1936، ونال العديد من التكريمات، وعُيِّن عضوًا فى لجنة الحفاظ على آثار الفن العربى والقسم الفنى، ثم كبير مهندسى الأوقاف، كما منح وسام النيل الرسمى ومنح لقب بك من الدرجة الثانية، ثم من الدرجة الأولى.
قدَّم العديد من الأبنية المتميزة بمصر منها فيلا مارتينو باشا فى جاردن سيتى، أضرحة عائلة إيلى باشيا بمقابر الإمام الشافعى، وعائلة نونجوفيتش اليونانية، مدرسة الطائفة اليونانية الأرثوذكسية بمصر الجديدة، كما فاز عام 1914 بمسابقة بناء المقر الجديد للجامعة المصرية، إلا أن البناء توقف عند وضع حجر الأساس بسبب الحرب العالمية الأولى، وأشرف على تشييد ضريح بمسجد الفتح الواقع ضمن مجمع قصر عابدين الملكى بالقاهرة، كما شيد مقابر الملكة الأم والملك فؤاد بمسجد الرفاعى، كما أعاد صياغة الجذع الملكى القديم خصيصًا لإعلان استقلال مصر عام 22 والذى اعتمد رسميًا عام 23، ومسرح وقاعة مدينة دمنهور، ومبنى الجامع الكبير بباريس بتبرع من الملك فؤاد، ومقر الجمعية الملكية للاقتصاد السياسى والتشريعى، والجمعية الملكية للحشرات، ودار رعاية المسنين فيتوريو إيمانويل الثالث، والنصب التذكارى للخديوى إسماعيل والد الملك فؤاد، وأيضًا صمم النصب التذكارى بطابعه العربى تكريمًا للملك فؤاد صاحب الفضل على فيروتشى.
وبعد تولى الملك فاروق الحكم استدعى فيروتشى لتعيينه رئيسًا فخريًا للمعماريين ومشرفًا على فنون القصور الملكية، إلا أن فيروتشى نظرًا لتخوفه من الصراعات فضل العودة إلى إيطاليا. ومنذ عام 1940 قضى سنواته الأخيرة فى منزله الذى بناه على غرار الطراز المعمارى لقصر المنتزه المحبب لقلبه، وتوفى عام 1945. رحلة حافلة بالإنجازات فى مصر، ولا يزال أثرها ممتدًا بين مصر وإيطاليا.