يوميات رسام كاريكاتير فى المهجر 13
المدير

تامر يوسف
لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.
سعيت كل السعى لأن ألتقى به وأن أتعرف عليه بشكل شخصى وعن قرب. علمًا بأنى كنت أعرفه جيدًا بشكل فني، وذلك من خلال أعماله التى هى ملء السمع والبصر.

فهو أحد أبرز رسامى الكاريكاتير من جيل الوسط. فنان متفرد أسلوبًا وفكرًا. وهو ما دعانى للبحث عنه فى كل الدروب، حتى علمت أنه يتردد على حديقة الجريون بوسط المدينة مساء يومى الاثنين والخميس، حيث يلتقى بأصدقائه من الوسط الثقافى.
وعقدت العزم وتوجهت إلى نفس المكان الذى يتردد عليه. وما أن وصلت إلى هناك، حتى وجدت لوحاته تملأ جدران الممر المؤدى إلى الصالة. حيث رسم رواد المطعم من الفنانين والمثقفين فى لوحة كبيرة. ورسم بعض البورتريهات المنفصلة لصاحب المطعم. ورواد آخرين من المثقفين، مثل الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم على سبيل المثال لا الحصر.
وعندما توجه نحوى النادل الذى وجدنى شاردًا أتفحص اللوحات بكل تأنٍ وتركيز، حيث من المؤكد أنه أيقن أننى وجه جديد على المكان. فسألته على الفور عنما إذا كان الفنان المنشود الذى أبحث عنه موجودًا. فأشار لى على طاولته، وقال لي: أهو قاعد هناك أهه.
وكان من أشار إليه ضخم البنية، أسمر البشرة. شعره مموج يميل إلى اللون الرمادي، ويرتدى بلوفر هاى كول أسود اللون. فتوجهت إليه مباشرة وأنا فى قمة السعادة، فأخيرًا قد تحقق حلمى بأن ألتقيه وأتعرف عليه. ووقفت أمامه مباشرة، ومددت يدىّ نحوه كى أصافحه. وقلت له بصوت جهير: مساء الخير يا أستاذ رؤوف.. أزى حضرتك؟. فضحك جميع من كانوا جالسين بشكل لافت.

ولأول وهلة، لم أدر ما السبب وراء هذه الضحكات المتعالية النابعة من القلب. وعندها سألنى وهو يضحك وما زلت يدىّ فى يده: أنت عايز رؤوف مين؟؟.. فأجبته بمنتهى الثقة: الفنان رؤوف عياد. فتعالت ضحكات جميع من كانوا جالسين بالصالة أكثر وأكثر. وقتها جذبنى من يديّ وأشار لى على شخص قصير القامة، نحيف البنية، نحيل الشعر، يتوسط وجهه شارب خفيف ولحية بسيطة. وكان يجلس أمامه على نفس الطاولة، قائلًا: ده رؤوف عياد.. أنا جميل شفيق. وقتها أدركت سبب هذا الضحك الهيستيرى الذى أصاب كل من كان حاضرًا لهذا الموقف، وأخذت أبرر هذا الخطأ غير المقصود وأنا أضحك على استحياء. فأنا لا أعرف شكل الفنان رؤوف عياد، ولم ألتقه من قبل.
وكان النادل قد أشار لى بزاوية مختلفة نحو الفنان جميل شفيق، فحدث هذا الموقف الساخر الذى يصلح للعرض كفقرة كوميدية ببرنامج مواقف وطرائف. إلا أنه كان الموقف الذى لا ينسى والذى جمعنى بصداقة ودودة وممتدة بالفنان رؤوف عياد. بل وكل من كانوا جالسين من حوله.

هو رؤوف عَياد حِنِس، رسام الكاريكاتير الشهير بـ«رؤوف عياد». أحد أضلاع الجيل الثانى من مدرسة صباح الخير الكاريكاتورية. المولود بالسودان فى الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1940، لأب مصرى مولود أيضًا بالسودان عام 1905. وكان والده يعمل بالسودان بوصفه مصريًا بموجب تصريح عمل من الحكومة المصرية.
وكان وقتها عياد قد التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم. علمًا بأنه لم يكن متاحًا بها فى هذا الوقت، سوى كليات التجارة والحقوق والآداب.

لكنه لم يكمل دراسته بها، حيث أحيل والده للمعاش عام 1960، فعادت الأسرة إلى مصر. واستقرت بمدينة إسنا بأسوان. وهو ما اضطر عياد لتحويل دراسته إلى كلية الحقوق بجامعة عين شمس. وكان وقتها فى سن العشرين. إلا أنه يتم دراسته بها أيضًا. لينضم فى النهاية إلى المعهد العالى للفنون بالسودان.
البداية والمسيرة
عن بداياته، التقى عياد بالكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس وعرض عليه بعضًا من أعماله. وبدوره تحمس لريشته، وأفكاره، وأتاح له فرصة عمره بالتدرب بروزاليوسف. واستمر بالتدريب بالمؤسسة حتى انضم بشكل رسمى لمجلة صباح الخير عام 1962 وانطلق نحو حفر اسمه كرسام متميز. وكان عياد فى هذا الوقت، ينقل أسلوب الفنانين العملاقين جورج بهجورى، ورجائى ونيس، لكن بشكل أكثر تطورًا.
وظل على هذا الحال حتى أوجد لنفسه أسلوبه الخاص ورؤيته الثاقبة. وتميزت خطوطه بالمرونة والانسيابية. وتميزت أفكاره بالعمق وخفة الظل معا. حيث تألق فى رسم الكاريكاتير برؤية متفردة، ومفردات بصرية غاية فى الثراء، وواقعية الفنان المهموم بمشاكل مجتمعه. وكأن أعماله تمثل مرآة هذا المجتمع. حيث أنه لم يسع يومًا إلى المكانة التى يفضلها أى رسام للكاريكاتير على الإطلاق. وهو أن يكون طول الوقت عن يسار السلطة موجهًا لها الهجوم والنقد. وذلك بحثًا عن الشهرة الجماهيرية، والمجد فى الوسط الثقافى. وإن كان فعل ذلك فى بعض الأحيان، فكان الهدف منه أن يجسد بريشته المنمقة، وعقله الواعي، وفكره اليساري، أحلام وواقع البسطاء والمقهورين والمهمشين بمنتهى الأمانة والالتزام، وكأنه عالم متخصص فى الميثولوجيا. وذلك دون الخوض فى جلد الذات أو لى الحقائق أو تشويه المعطيات. حيث أن عياد كان على يقين بأن الكاريكاتير الاجتماعى هو قمة الخوض والغوص فى أعماق السياسة.

قبل نهاية سبعينيات القرن الماضي، انضم للعمل بالإصدار الثانى من جريدة الأهالى الصادرة عن حزب التجمع اليساري. واستمر بالنشر بها حتى عام 1995. علما بأنه عمل بجريدة العربى الناصرى. كما شارك أيضا برسومه الكاريكاتورية فى عدة مجلات عربية، منها: سيدتي، وكل الأسرة، وسيدى سادتي، وجريدة الخليج. وآخر الإصدارات التى استعانت بأعماله الكاريكاتورية كانت مجلة كاريكاتير، وجريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة. وله عدة تجارب فى مجال رسوم الأطفال. حيث رسم بمجلات ماجد الصادرة عن الإمارت العربية المتحدة منذ إصدارها الأول. ومجلة العربى الصغير الصادرة عن دولة الكويت. ومجلة باسم الصادرة عن المملكة العربية السعودية.
ويعد ملحق الدبور الذى صدر فى مطلع تسعينيات القرن الماضي، عن مجلة صباح الخير، وبشكل أسبوعى صباح كل يوم ثلاثاء - هو أهم إنجازات رؤوف عياد على الإطلاق. حيث أبدع هذا الملحق وأطلق عليه هذا الاسم المثير، وأشرف على إصداره لفترة تقارب من السنتين. وصدر هذا الملحق إبان رئاسة تحرير الأستاذ مفيد فوزى لصباح الخير. وكانت له أبواب ثابتة، ورسم به معظم رسامى المجلة فى هذا الوقت مثل: بهجوري، ورمسيس، ومحسن جابر، ومحمد حاكم، ومحمد طراوي، وسامى أمين، وعبدالعزيز الجندي، وجمال هلال، وآخرون. وكان إصدارا مقروءًا ويتابعه الشارع المصرى باختلاف طوائفه وثقافاته.

ويذكر أن ملحق الدبور كان إحياء لملحق صباح الفل الذى كان يصاحب مجلة صباح الخير فى السبعينيات. علمًا بأن هناك عددًا خاصًا وساخرًا من مجلة صباح الخير قد صدر بالكامل على شكل ملحق الدبور. وكأنه تحد يقوده رؤوف عياد بصحبة رسامى المجلة ضد مفيد فوزى. وحمل غلاف هذا العدد رسمًا للفنان عبدالعال حسن، وتم فرد رسم لرسامى المجلة المشتركين فى هذا التحدى بريشة الفنان سامى أمين فى الدوبل. لكن فى الأخير توقف الدبور عن «الزن».
إذ أن هذا الملحق لم يصمد أمام الضغوط فى هذا الوقت بعد أن هاجم عياد من خلاله د.على لطفى ود.عاطف عبيد - رئيسى الوزراء السابقين. وللأمانه، لا بد وأن أذكر أن فترة قيادة مفيد فوزى لرئاسة تحرير صباح الخير كانت فترة ثرية جدا أعادت المجلة لسابق عهدها. واعتمد فيها على فنانى الكاريكاتير والرسم بشكل أساسى.
ابن بطوطة
يعتبر رؤوف عياد أكثر أبناء جيله من حيث السفر والتجوال.
حيث أقام عدة معارض بدول أوروبا الشرقية، مثل: بلغاريا، ويوغسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا، ورومانيا، وألمانيا الشرقية عام 1968. ثم لاحقًا بدول عربية، مثل: تونس، والسودان، والجزائر، وليبيا، واليمن. كما شارك فى ورش عمل بدول هولندا، وسويسرا، وإيطاليا، وقبرص، واليونان.
ويذكر أنه حصل على عدة جوائز مهمة. ومنها جائزة المركز الثالث فى المسابقة التى نظمتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان عام 1985. هذا كان مجرد جزء من سيرته المهنية التى أعرفها عنه حتى من قبل أن ألتقى به.
على المستوى الاجتماعي، كان رؤوف عياد متزوجًا وله ولد يعمل فى مجال تكنولوجيا المعلومات. إلا أنه كان يقيم منفردًا بشارع عثمان بن عفان بمصر الجديدة بالقرب من ميدان تريومف. قبل أن ينتقل للإقامة مع عائلته بمنطقة المهندسين. كما أن أخته السيدة مولى متزوجة من السيد أحمد الألفى شقيق الفنانة سمية الألفي. وأن والدة الفنانة ماهينور عز الدين الشهيرة بـ مى عز الدين هى ابنة خالتهما.
وطوال إقامته بمصر الجديدة كنا نلتقى فى الصباح بشكل يومى بمقهى هاريس - أحد مقاهى شارع بغداد بالكوربة - (للأسف أغلق أبوابه بعد وفاة صاحبه). وكنا نُطلق على هذا المقهى المكتب كاسم حركي. وكانت لنا طاولة ثابتة، حيث كنا نتصفح الجرائد والمجلات لمتابعة آخر المستجدات والأخبار بينما نرتشف القهوة المحوجة المتميزة صباح كل يوم. وكنا نضع أفكار الكاريكاتير الذى كنا نرسمه فى هذا المكان الساحر ذى الموقع المتميز. وكنا نتناقش فى هذه الأفكار ونتنافس فى تحسينها. وكنا نضيف عليها التعليقات والتأثيرات الساخرة. وكأن هذا المقهى - المكتب - هو ورشة عمل كاريكاتورية مستقلة. وكثيرًا ما كان يتفاعل معنا الزبائن ممن يترددون على هذا المقهى ويعرفوننا عن كثب.
وأتذكر أن الفنان رؤوف عياد كان قد تعرض للكسر المضاعف بساعده الأيمن. ووقتها توقف عن الرسم لفترة. وعندما التقيته دار بيننا حوار حول توقفه عن الرسم. وهل يمكن لأى فنان أن يتوقف عن الرسم لأى سبب من الأسباب. وهو ما رفضه شكلا وموضوعا. لكنه ختم هذا الرفض بجملة «لكن ما باليد حيلة».
ووقتها اقترحت عليه أن يرسم مستخدمًا يده اليسرى كنوع من أنواع التحفيز على مواصلة الرسم. وتعجب من الفكرة كونه لم يرسم قط بيده اليسرى، إلا أنه قرر وقتها أن يخوض التجربة. وهو ما أسفر عن رسوم غاية فى الجمال والدقة بالرغم من أن هذه الرسوم قد استغرقت وقتًا أطول.
واللطيف أننى ناقشته فى أحد الأيام حول تجربته فى مجال رسوم الأطفال. وكنت يومها أطلعه على بعض الرسومات التى كنت قد أعددتها لمجلة قطر الندى قبل صدور أول أعدادها. وسألته لماذا لم يكمل مسيرته فى هذا المجال.
فأجابنى بأن رسوم الشرائط المتابعة «الكوميكس» يعد دربًا من المسحيل. ووصفه بأنه كما الولادة المتعسرة. فهو يستهلك منه وقتًا وجهدًا كبيرًا لإنجاز مجرد صفحة واحدة. وأكمل بأنه لا يعلم من أين أتى بهذه المساحة من الطاقة والصبر على انجاز رسم هذه الصفحات؟!
والشيء بالشيء يذكر، تأخر نشر هذه الرسوم بمجلة قطر الندى لسبب لم أكن أعلمه وقتها. حيث نشرت الحلقة الأولى من هذه السلسلة بالعدد السادس. وفيما بعد عرفت أن عبده الزراع - سكرتير تحرير المجلة فى هذا الوقت - ورئيس تحريرها فيما بعد - كان يجد صعوبة فى معالجة تلك الرسوم عبر المسح الضوئي. وذلك بسبب كبر حجمها. حيث كنت أرسم على مساحة نصف الفرخ. والذى يمثل 50 * 70 سم. فلم يجد الزراع أى حل سوى تقطيع اللوحات إلى أجزاء لتسهيل عملية المسح الضوئي، ومن ثم إعادة تجميعها من جديد عبر برامج التصميم!
ضحك طفلين معا
كان رؤوف عياد من أكثر الفنانين المتحمسين لتنظيمى للمسابقات والمعارض الدولية بمصر (27 حدثًا دوليًا). وأتذكر أننا سافرنا إلى منتجع أوبروى بسهل حشيش المطل على شواطئ البحر الأحمر بصحبة صديقنا رسام الكاريكاتير الإنجليزى - النيجيرى الأصل - تايو فاتونولا الذى حضر إلى مصر خصيصًا لحضور فعاليات المهرجان الدولي. وقد وثق هذه الرحلة الأسطورية بقلمه وريشته فى ثماني صفحات عبر مجلة صباح الخير الأسطورية. ونشرها مصحوبة بالرسوم التعبيرية تحت عنوان: «وضحكنا ضحك طفلين معا»؟.
ومن الغريب حقًا أن رؤوف عياد - المصرى الهوى والهوية والذى صال وجال بين شوارع وأزقة مصر - كرسام للكاريكاتير، لم يحصل على الجنسية المصرية كمواطن. علمًا بأنه مر بتجربة مريرة مع هذا الشأن. حيث أنه احتاج لأن ينهى بعض الإجراءات والأوراق الحكومية، فاصطدم ببعض الموظفين الذين أنكروا عليه جنسيته المصرية. مع العلم بأنه عضو نقابة الصحفيين، ونقابة الفنانين التشكيليين. فلم يجد أى حل سوى أن يرفع دعوى قضائية. سعى من خلالها كل السعى لإثبات أحقيته فى هذا الأمر منذ نوفمبر 1998. وكان دائمًا ما يقابل هذا الأمر بسخريته المعتادة وضحكته البشوشة.
إلا أنه حصل عليها بحكم المحكمة الإدارية العليا عام 2019. وكانت الإدارية العليا قد ألغت حكمًا صادرًا من محكمة القضاء الإدارى عام 2004 والذى أيد قرار وزارة الداخلية بعدم إثبات جنسيته المصرية. وكان ذلك بعد رحيله بـ13 عامًا. حيث غابت شمس المدير عن دنيانا، عندما رحل فى الثانى والعشرين من يناير عام 2006 عن عمر يناهز الخامسة والستين بعد معاناته مع مشاكل صحية بالكبد.