الخميس 24 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

شاهدت التليفزيون قبل انطلاقه بسنة!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

 

 

شاهدت التليفزيون قبل انطلاقه فى 21 يوليو سنة 1960.. بسنة كاملة.. ولم أكن وحدي، كان معى والدى ووالدتى وجمهور كبير من الناس.

حدث ذلك سنة 1959 وكنا وقتها نزور المعرض الصناعى الزراعى السنوى الذى يقام كل سنة على أرض المعارض فى الجزيرة (أصبحت الآن أوبرا القاهرة).. 

وخلال تجوالنا فى المعرض وجدنا استوديو تليفزيونيًا -لم نكن نعرف ما هو- عرفنا أنه دائرة تليفزيونية مغلقة، داخل المعرض فقط، وفى الاستوديو الصغير تجلس مذيعة شابة وكانت هناك شاشات تليفزيونية منتشرة فى أنحاء المعرض.. عرفنا فيما بعد أنها همت مصطفى التى كانت تذيع إعلانات عن ما يعرض فى أجنحة المعرض.. كان هذا شيئًا مثيرًا لدهشتنا جميعًا.. فنحن نعرف الإذاعة ونستمع إليها لكننا لا نشاهد المذيعين والمذيعات.. والآن نشاهد هذه المذيعة الشابة ونستمع لما تقوله.. وهذا لا نعرفه إلا على شاشات السينما فقط.. وقال لنا منظمو هذا العرض المدهش إن التليفزيون هو عبارة عن سينما فى كل بيت!..  

 

 

ومن شدة الإثارة كنا نتجول فى المعرض ثم نعود لمشاهدة هذه العملية السحرية التى حوّلت الإذاعة إلى سينما.. وحكت همت مصطفى فيما بعد عن هذه التجربة فقالت إنها اختيرت ضمن مجموعة صغيرة من مذيعى ومذيعات الإذاعة ليتحولوا إلى العمل فى التليفزيون. ومن هؤلاء سعد لبيب وعباس أحمد وأنور المشرى وسميرة الكيلانى وصلاح زكى وسميحة عبد الرحمن وأمانى ناشد.

ومع إن همت مصطفى كانت أول مذيعة شاهدها الجمهور المبهور يوم انطلاق التليفزيون إلا أنها حكت حكاية عجيبة عن دخولها الإذاعة بعد تخرجها فى قسم التاريخ فى كلية الآداب والتحاقها بالعمل الصحفى فى دار الهلال، فبعد عدة شهور شعرت بأنه لن يكون لها مستقبل فى الصحافة بسبب شخصيتها الخجولة وعدم تمتعها بالجرأة اللازمة، فوجدت إعلانًا تطلب فيه الإذاعة مذيعين ومذيعات جددًا، فتقدمت للامتحان وكانت اللجنة مكونة من أساتذة كبار هم محمد فتحى وعلى خليل وعبد الحميد الحديدى وعبد الحميد يونس ومحمد محمود شعبان «بابا شارو» وعبى الراعى وأنور المشرى وحسنى الحديدى وغيرهم.. وكان الامتحان شفويًا، وسقطت همت مصطفى فيه.. قالت اللجنة إن صوتها طفولى!

لكن بعد أربعة شهور أخرى عقد امتحان آخر وتقدمت فيه أمام اللجنة نفسها.. ونجحت هذه المرة!

وتلقت همت مصطفى تدريبًا لمدة أربعة أشهر فى ألمانيا التى دخلها التليفزيون قبل ذلك بسنوات طويلة.. وكانت متحمسة جدًا لكنها اشتكت من أن كل الناس يشاهدوننى إلا أنا.. لا أشاهد نفسى على الشاشة، فالإرسال على الهواء مباشرة وليس هناك وقتها تسجيل ولم يكن الفيديو قد ظهر بعد.

ظهورى فى التليفزيون

مرت خمس سنوات، ودخلت التليفزيون، مشتركًا فى مسابقة ينظمها برنامج «20 سؤال» الذى تقدمه ألمع مذيعات التليفزيون عمومًا ليلى رستم.

وكانت الحلقة مذاعة على الهواء يوم 21 فبراير 1964 احتفالًا بيوم الطلاب العالمى وينافسنى فى المسابقة أحد خريجى قسم الصحافة فى كلية الآداب - جامعة القاهرة، واسمه كرم شلبي- أصبح فيما بعد رئيسًا لتحرير مجلة «صوت الأزهر» - وقد كنت وقتها فى أول سنواتى فى كلية الفنون الجميلة وفزت عليه كما قررت الدكتورة لطيفة الزيات التى كانت تتولى التحكيم بيننا.

وحصلت على كأس فضية نقش عليها اسمي، وكنت سعيدًا بهذه النتيجة، وبينما شاهد الحلقة كل أفراد عائلتي، وابتهجوا بفوزي، فقد أصابنى ذلك الشعور الذى أصاب المذيعة الشابة همت مصطفى سنة 1959 فى المعرض، بالإحباط.. فكل الناس يشاهدونها بينما هى لا تشاهد نفسها لأن الإرسال على الهواء.. دون تسجيل.

بعد سنوات بدأت تتشكل علاقة بينى وبين التليفزيون.

تعرّفت على عدد من المذيعين والمذيعات خلال عملى الصحفى فى «صباح الخير» وكذلك بعض المخرجين، ووجدت نفسى مكلفًا بإعداد بعض فقرات لبرنامج تقدمه أمانى ناشد.

كانت مذيعة محبوبة من الجمهور ومثقفة ومتميزة فى أدائها وناجحة فى التعبير عما يختلج فى قلوب وعقول المشاهدين.. لكننى لم أواصل بعد أن شغلنى عملى الصحفي، لكن علاقتى بالتليفزيون لم تنقطع، فقد صارت لى صداقات مع المخرج إبراهيم عبد الجليل مدير برامج الأطفال، والمذيعة السورية المثقفة والجميلة رشا مدينة والمذيع الذكى حمدى الكنيسى وشفيع شلبى قارئ نشرة الأخبار، وغيرهم..

 

 

 

مذيع غريب الأطوار

كنت أحضر أحيانًا مع شفيع وهو يذيع النشرة، وكان شابًا غريب الأطوار، يتمتع بثقافة وحضور لافتين، والغريب أنه كان يذهب إلى عمله فى «ماسبيرو» راكبًا بسكليته!.. والأغرب أنه كان يرتدى «شورت» أثناء قراءة النشرة!.. ولم يكن ذلك يظهر على الشاشة طبعًا، فالكاميرا تركز على وسامته ونطقه السليم.

وقد عانى شفيع شلبى خلال عمله الذى بدأه مذيعًا فى إذاعة الشعب قبل اختياره لقراءة نشرة أخبار التليفزيون.. فهو صاحب تفكير مستقل ومتمرد على الروتين وبعض القواعد وله آراء يعلنها بندية جعلت المسئولين فى التليفزيون يحاصرون نشاطه ويتعنتون معه، ففقده التليفزيون وخسرته الشاشة الصغيرة. فاتجه لإنتاج الأفلام التسجيلية. 

ومن المتاعب التى واجهها وكنت أشاركه إعداد برنامج جديد عبارة عن استخراج شخصيات شهيرة فى روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وغيرهم وإعادة تقديمها وإجراء أحاديث تليفزيونية معها! 

واستطلاع رأى النقاد والقراء فى هذه الشخصيات، مثل محجوب عبد الدايم وإحسان شحاتة وصانع العاهات وكمال عبد الجواد وغيرهم من شخصيات أبدعها نجيب محفوظ فى رواياته، ونادية لطفى بطلة رواية «لا أنام» لإحسان عبد القدوس، وهكذا.. شخصيات ظهرت فى السينما نقدمها ونلتقى بمن قدموها على الشاشة من نجوم ليحكوا لنا حكاياتهم مع تشخيص هذه الشخصيات ثم نطلب منهم استكمال المهمة بتقديم الشخصية فى التليفزيون وجعلها ترد على أسئلة الجمهور عن سلوكها وحياتها!

كانت هذه فكرتى التى رأيت أن شفيع شلبى يمكن أن يقدمها على الشاشة الصغيرة، لكن الفكرة رفضت لأن المسئولين كانوا قد ضاقوا ذرعا به وقرروا عدم التعاون معه.. وربما لأن تنفيذها سيترتب عليه تكلفة عالية!

ومن ذكرياتى التليفزيونية أننى رفضت الظهور فى أول حديث طلب منى ضمن برنامج يقدمه سمير صبرى ويلتقى فيه بأعضاء جمعية شكلتها الفنانة الشابة وقتها (30 سنة) نادية لطفى لرعاية ضحايا حرب 1967، فبعد أن سجل أحاديثه مع بعض أعضاء اللجنة وصل إليّ ففوجئ بى أقول له أننى لا أحب الظهور فى التليفزيون!.. أصابته الدهشة ولم يصدق أن هناك إنسانًا يرفض الظهور على الشاشة الصغيرة، ولا أعرف الآن سبب رفضي.. هل لأننى بعد معايشة العمل فى التليفزيون من الداخل تكوّنت لديّ قناعة أو شكوك قد يترتب عليها تحويل الكلام الذى نقوله إلى العكس من خلال عمليات المونتاج؟!.. لا أدري.

وعلى ذكر سمير صبرى وهو من نجوم التليفزيون فقد وقعت له واقعة فى بدايات حكم الرئيس السادات، حيث كان يقدم فى برنامجه المشهور «النادى الدولى» حلقة مع الراقصة الجديدة - وقتها - «فيفى عبده» أعلنت فيها بفخر أنها «بلديات» السادات، من قرية «ميت أبو الكوم» منوفية.

فما كان من السادات إلا أن أمر بطرد سمير صبرى فورًا من عمله فى التليفزيون وإلغاء برنامجه الشهير «النادى الدولى».. ولا أعرف ماذا جرى لـ«فيفى عبده» وقتها.

وفى الأسبوع المقبل نواصل