
عادل حافظ
العبقرى المغمور
لم تسمع عنه كثيرًا، رغم أن اختراعه أثّر فى حياة 5.5 مليار إنسان - وفقًا لأحدث الإحصائيات المتوفرة على موقع «statista.com» -، ودخل بيوتنا دون استئذان. إنه الرجل الذى جعل العالم قرية متصلة بضغطة زر، وحوّل المعلومات إلى نهر متدفق لا يجف.
فى لندن عام 1955، وُلد تيم بيرنرز لى، لوالدين كانا عالمين فى مجال الرياضيات وعلوم الحاسوب، حيث عملًا على تطوير أول حاسوب تجارى. ففى هذا المنزل الذى يضج بالأرقام والخوارزميات، نشأ تيم محاطًا بالنقاشات حول الأنظمة الرقمية، مما زرع فى داخله فضولًا لا يتوقف تجاه عالم التكنولوجيا.
فى طفولته، لم يكن كغيره من الأطفال، كان يميل إلى تفكيك الأجهزة الإلكترونية بدلًا من اللعب بها، يسأل أسئلة لا تنتهى عن كيفية عمل الأشياء. لم تكن ألعاب الفيديو أو القصص المصورة تثير اهتمامه، بل كان يستمتع بتحدى نفسه عبر فهم الدوائر الكهربائية وإصلاح ما يبدو مستحيلًا إصلاحه.
فى عام 1973، التحق بجامعة «أكسفورد» لدراسة الفيزياء، حينها لم تكن أجهزة الحاسوب فى متناول الجميع. لكن ذلك لم يكن عائقًا أمامه. فحسب موقع «w3.org» استغل تيم القطع الإلكترونية القديمة وأجزاء من جهاز تليفزيون قديم و(معالج/ بروسيسور) ليصنع حاسوبه الخاص. لم يكن الأمر مجرد تجربة عابرة، بل كان خطوة نحو إدراكه أن التكنولوجيا يمكن إعادة تشكيلها لتناسب احتياجات البشر.
بعد تخرجه عام 1976، بدأ حياته المهنية فى شركة «بليسى للاتصالات»، حيث اكتسب خبرة عملية فى مجال الاتصالات.
فى عام 1980، قاده فضوله إلى المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية «سيرن»، حيث عمل كمتعاقد مستقل.
هناك، أدرك إحدى المشكلات التى كانت تواجه العلماء، وهى أن تبادل المعلومات بين أجهزة الحاسوب المختلفة لم يكن سلسًا. كان لكل نظام بنيته الخاصة، وكان التعاون العلمى معقدًا بسبب عدم وجود وسيلة موحدة لمشاركة البيانات.
وفى محاولاته لحل هذه المعضلة، ذكر موقع «الموسوعة البريطانية»: (ابتكر نظامًا مبدئيًا يعتمد على النصوص الفائقة لربط المعلومات ببعضها بطريقة أكثر سهولة)، ورغم بساطته، كان هذا المشروع الشرارة الأولى لفكرة غيرت وجه العالم بعد سنوات قليلة.
بحلول عام 1989، كان تيم مقتنعًا بأن العالم بحاجة إلى وسيلة أبسط لمشاركة المعلومات. فقدم مقترحًا إلى المنظمة يوضح فكرته حول «نظام إدارة معلومات لامركزي»، لكنه لم يلقَ اهتمامًا فى البداية. فلم يكن أحد يدرك أن هذا المقترح سيصبح لاحقًا أساسًا للإنترنت كما نعرفه اليوم.
لكن فى عام 1990، أعاد تقديم فكرته، وحصل على الضوء الأخضر لتجربتها، وبدأ ببرمجة العناصر الأساسية للشبكة العالمية «www».
وفى أغسطس 1991، أطلق أول موقع «ويب» فى التاريخ بعنوان «info.cern.ch»، الذى قدم معلومات حول مشروع الشبكة العالمية وكيفية استخدامها. فلم يكن أحد يتوقع أن هذه اللحظة ستشكل بداية عصر رقمى غير مسبوق، حيث سيتحول العالم إلى قرية رقمية صغيرة ومترابطة، وهو ما مهد الطريق لثورة الاتصالات والمعلومات التى بدأت فى نفس العام.
لم تعد الشبكة العالمية مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل أصبحت النبض الذى يحرك العالم الرقمى الحديث. فهى تعمل كنظام يسمح بربط الصفحات والمواقع عبر روابط سهلة للمستخدم العادي، ما يتيح الوصول إلى المعلومات بسهولة بغض النظر عن الموقع الجغرافى.
ومع تطوره، ولدت تقنيات مثل محركات البحث، والتجارة الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعى. واليوم، لا يقتصر تأثير الشبكة العالمية على تصفح المواقع، بل يمتد إلى الذكاء الاصطناعى وإنترنت الأشياء وحتى الواقع الافتراضي، ما يجعلها محركًا رئيسيًا لكل ثورة رقمية نشهدها. فقد غيّر هذا الابتكار الطريقة التى نعمل ونتعلم ونتواصل بها، وجعل المعرفة فى متناول الجميع.
وذكر موقع «CNBC» أن تيم قال «عندما بدأ الأمر، لم أكن أتوقع أن يكون الأمر بهذا الشكل، وهذا التغيير». وفى مارس عام 1999، تم اختياره ضمن قائمة مجلة «تايم» لأهم 100 شخصية فى القرن العشرين، أما فى عام 2004، فمنحته الملكة إليزابيث الثانية ملكة المملكة المتحدة لقب «سير».
إن قصة «السير تيم بيرنرز لي» ليست مجرد حكاية عن رجل عبقري، بل هى دليل على قوة الفضول والإصرار. طفل بدأ رحلته بتفكيك أجهزة الراديو والتلفاز، حتى أصبح المهندس الذى فتح أبواب المعرفة للعالم بأسره.
وما زالت رحلة السير تيم مستمرة، حيث يعمل أستاذًا فخريًا فى علوم الحاسوب بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بأمريكا، وكذلك بجامعة أكسفورد بإنجلترا.
إذا كان اختراع واحد قد أعاد تشكيل العالم، فما الفكرة التى تحملها فى جعبتك اليوم، وقد تكون بداية التغيير القادم؟