الأربعاء 16 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

صباح الخير تنفرد بلقاء ليلى خالد

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

على شاشة الذاكرة ظهرت صورة لفتاة جميلة (24 عامًا) فلسطينية تشبه «أودرى هيبورن».. الصورة انتشرت فى أنحاء العالم سنة 1969 فهذه هى الفدائية قائدة عملية خطف طائرة... عرفناها وقتها كعملية لتعريف العالم بقضية فلسطين.

بطريقة ما تبدو الصورة ملخصة فى «الخاتم».. الصورة التى جعلت من «ليلى خالد» رمزًا لفلسطين المقاومة.. وقوة المرأة غير العادية على أكثر من مستوى.. البندقية التى تمسك بها يدان ناعمتان رقيقتان.. الشعر اللامع الملفوف بالكوفية. الوجه الرقيق الذى يرفض لقاء عينيك.. ولكن إنه «الخاتم» الذى يستريح برقة فى إصبعها الثالثة.. إنه عبارة عن رصاصة حقيقية فى حلقة مأخوذة من قنبلة حقيقية.

 

الصورة لم تتغير كثيرًا.

هذه هى «ليلى خالد» التى نلتقيها فى لندن بعد سنوات طويلة وتتحدث للصحافة المصرية لأول مرة عبر «صباح الخير» فى الحوار الذى أجريته معها ونشر فى عدد 27 فبراير 2001.

الصورة لم تتغير كثيرًا، الوجه صامد..العيون حادة النظرات.. الروح مستقرة واثقة. إنسانة قوية، واضحة، مؤمنة..هادئة.

كانت مهمتها ضمن نشاط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هى قيادة عمليات خطف الطائرات لإثارة انتباه العالم إلى عدالة قضية شعب فلسطين.

نلتقى بها فى حوار خاص بعد مرور أكثر من 30 عامًا على أول عملية، جاءت هذه المرة بدعوة من البرلمان البريطانى، كضيفة رسمية على «لجنة الطوارئ للدفاع عن حقوق شعب فلسطين وشعب العراق».

كانت آخر مرة وصلت فيها «ليلى» إلى مطار هيثرو فى لندن قبل 31عامًا من لقائنا.. حيث قادت ثانى عملية خطف طائرات.. وهبطت طائرة «العال» الإسرائيلية فى المطار اللندنى الشهير قادمة من أمستردام عاصمة هولندا، وتم القبض عليها واعتقلت لعدة شهور، قبل إطلاق سراحها.

 أسألها: هل ما زالت ليلى خالد الآن (فى عمر 56) مستعدة للتضحية بحياتها من أجل فلسطين؟

تقول لى: منذ أول يوم شاركت فيه فى العمل الوطنى وأنا أقدم نفسى فداء للوطن وحتى الآن لم يتغير تفكيري، والموت ليس كثيرًا من أجل بلدى.

 وأسألها: هل تخوضين الآن عملية جديدة لخطف طائرة؟!

تقول المرأة الناضجة التى أصبحت أمًا لشابين إن خطف الطائرات لم يعد مطلوبًا الآن، لكنه كان ضروريًا عندما قمت به سنة 1969.

كانت العملية الأولى التى قامت بها «أودرى هيبورن» المقاومة الفلسطينية -كما أطلقت عليها صحافة العالم وقتها- هى خطف طائرة الخطوط الجوية الأمريكية الشهيرة TWA وتمت العملية بنجاح وأذهلت العالم الذى التفت لأول مرة إلى وجود قضية الشعب الفلسطينى وأرض اسمها فلسطين. 

بعد نجاح العملية اشتهرت فى صحف وتليفزيونات العالم صورة ليلى خالد التى كانت فتاة نحيفة جميلة تدرس فى الجامعة الأمريكية فى بيروت وتركت الدراسة والتحقت بالعمل الفدائى وتخلت عن أحلام البنات الرومانسية، ووضعت حياتها على كفها وتدربت على العمل الفدائى المسلح وخطف الطائرات المدنية.

تسكت قليلًا قبل أن تؤكد لى أنه لم يقتل إنسان واحد خلال العمليتين اللتين قمت بهما، اضطررنا لخطف الطائرات لأننا كنا وقتها نريد أن نلفت انتباه العالم إلى عدالة قضيتنا وإلى وجودنا أصلًا كشعب يرفض الهوان والعدوان ويرفض الاحتلال والتشتت والتشرد.

 

 

 

قضيتى أكبر منى

 وكيف نجحت فى إخفاء ملامح وجهك الذى اشتهرت صورته فى العالم بعد نجاح العملية الفدائية الأولى؟.. وكيف كان شعورك وأنت تقودين العملية الثانية عملية الطائرة الإسرائيلية؟

- أنا بنت القضية وقضيتى أكبر منى.. أجريت ست عمليات جراحية لتغيير ملامح وجهى.

 ضحيت بجمالك؟!

- لا يعنينى جمال وجهى.. قضيتى أكبر منى ومن جمال وجهى.. ومن حياتى ذاتها.

ولدت ليلى خالد فى حيفا المدينة الفلسطينية الساحلية وعندما وقعت حرب فلسطين عام 1948 كانت فى الثالثة من العمر تقريبًا وهاجرت مع أهلها إلى لبنان، ومنذ ذلك الوقت أصبح الوطن الذى حرمت عليها العودة إليه، شاغلها الشاغل، وأصبحت سياسية وفدائية و«بنت القضية».

تروى لى بمشاعر خاصة كيف أنها عندما قادت أول عملية خطف طائرة أجبرت الطيار على التحليق فوق مدينتها «حيفا».

 هل كنت فلسطينية أولًا أم امرأة أولًا؟

تجيب: لا يمكننى التمييز.. أنا امرأة وفلسطينية فى الوقت نفسه.

فى البداية كان على كل النساء المشاركات مثلنا فى الكفاح المسلح أن يثبتن للرجال المقاتلين أنهن على درجة الكفاءة نفسها التى يتمتعون بها.. كان علينا أن نتخلى عن أنوثتنا من أجل وطننا..لقد كنا نريد أن نكون رجالاً فى ذلك الوقت.. حتى فى مظهرنا الخارجي.

 وهل تقدمت المرأة الفلسطينية بعد هذا النضال؟

- المرأة الفلسطينية خاضت نضالًا مركباً.. ضد العدو ونضالًا آخر طبقيًا واجتماعيًا.. وكان ذلك صعباً..كان على الفلسطينية المشاركة فى النضال على جبهات السياسة والثورة المسلحة وفى الانتفاضات المتعاقبة.. وكانت هناك تغييرات دائمة فى النظر إلى المرأة.. وفى نظرة المرأة الفلسطينية لأمورها ومسئولياتها، وانكسرت كل التقاليد فى حياتنا الفلسطينية.

صورة المرأة القابعة فى البيت.. المكبلة.. الخاضعة لسلطة الرجل فقط، تغيرت. صحيح أننا لم نقطع شوطًا طويلًا فى هذا المجال، لكن صار عمل المرأة مقبولًا فى السياسة والعمل الفدائى ولم نعد نرى الآن من يرفض أن تعمل ابنته.

وعلى الرغم من أن الشعب الفلسطينى شعب مشتت، فإن الظروف التى عاشها تحت الاحتلال أو فى الشتات دفعت العائلة لأن تكسر التقاليد، فرأينا المرأة الفلسطينية تخرج وتعمل وتساهم فى إعالة الأسرة وهذا أعطاها فرصة لأن تتحرر من القيود القديمة.

 

 

 

 دعينا نتكلم عن «ليلى خالد».. هل ما زال العالم ينظر إليك باعتبارك «إرهابية»؟

- من هو الإرهابي؟..الذى يأتى إلى بلادك ويحتلها.. ويطردك منها ويقتلك ويقتل أطفالك، ويشردك ويجعلك لاجئًا حول العالم.. يأتى من أنحاء العالم ليستوطن وطنك.. هذا هو الإرهابي.

طوال 31 سنة كان اسم ليلى خالد مقرونًا فى سجلات مطارات العالم بصفة «إرهابية» .. ولم يسمح لها بدخول لندن سنة 2001 إلا بعد أن رفعت الحكومة البريطانية اسمها من قوائم الإرهاب الدولي، وتم استقبالها بوصفها مناضلة فلسطينية وعضو المجلس الوطنى «البرلمان الفلسطينى».

تريد العودة إلى حيفا

جرت مياه كثيرة تحت جسور العالم وها هى «ليلى» تأتى إلى لندن وتلقى الترحيب والحفاوة فى قاعات البرلمان.. وتتحدث بحرية.. وتدافع عن حق الشعب الفلسطيني.. وعن حق اللاجئين فى العودة إلى بلادهم، وعن حقها فى العودة إلى حيفا.

فى اجتماع حاشد اضطرت السلطات إلى إعادة نصف عدد المتطلعين لحضوره إلى منازلهم لأن القاعة البرلمانية لا تتسع لأكثر من 200 إنسان، وقفت «الجميلة المقاتلة» التى تدخل عامها الـ56 وقد لفت نفسها بالكوفية التى اشتهرت بها، بألوان علم فلسطين الأبيض والأخضر والأسود والأحمر.

بعد أكثر من 30 عامًا مازالت ليلى هى ليلى الفلسطينية الثورية المقاتلة المنادية بالسلام القائم على العدل.. أستمع إليها وأتأمل ملامح شخصيتها ونبرة صوتها وأجدها على نفس درجة القوة والصلابة والفتوة والحماس والوعى والثورية وإن زادت نضجًا وحنكة.

 وماذا بعد.. هل تتواصل الحرب لما لا نهاية؟

- نحن - كما قلت فى بيانى أمام البرلمان البريطانى - لسنا «غاويين حرب» نحن نريد أن نعيش فى سلام.. ولكن أى سلام؟.. هل هو السلام المفروض علينا من أمريكا وإسرائيل.. لا السلام الذى نقبله هو الذى نضمن فيه حقنا فى أن نعيش بكرامة على أرضنا ونضمن سيادتنا على أرضنا.. وبدون هذا يظل الصراع قائمًا. وفى الأسبوع المقبل نواصل