السبت 19 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الانتصار بطريقة أخرى!

الانتصار بطريقة أخرى!

فى عالم الطب، هناك أشخاص لا يكتفون فقط بممارسة مهنتهم؛ بل يتركون بصمة خالدة تلهم الأجيال القادمة. من بين هؤلاء، البروفيسور «ريتشارد سكولير»، الذى لم يكن مجرد عالم فى مجال تشخيص الأورام؛ بل كان محاربًا ضد السرطان بكل السبل الممكنة، حتى عندما أصبح هو نفسه ضحية له.



وُلد ريتشارد فى أستراليا عام 1966، ونشأ بشغف للعلم والمعرفة. منذ سنواته الأولى، كان فضوليًا، محبًا للبحث، ويؤمن بأن العلم يمكن أن يكون أعظم أداة لخدمة الإنسانية. 

فى فترة دراسته، تميز بتفوقه الأكاديمى، مما قاده إلى دراسة الطب بجامعتى «تسمانيا» و«سيدنى» بأستراليا، حيث بدأ شغفه الحقيقى بعلم الأمراض والتشخيص.

ومع مرور الوقت، أصبح واحدًا من أبرز العلماء فى مجال تشخيص سرطان الجلد «الميلانوما»، حيث ساهم فى تطوير طرق دقيقة للكشف عنه وإنقاذ حياة العديد من المرضى حول العالم. وذكر موقع «معهد الميلانوما» فى أستراليا، أنه كان يستقبل أكثر من 2000 حالة سنويًا من أستراليا وخارجها، كما أنه شارك فى قيادة مختبر أبحاث الميلانوما التطبيقية، ويتضمن سجله مشاركة فى تأليف أكثر من 800 منشور وكتاب، وقدم ريتشارد عروضًا تقديمية فى أكثر من 400 مؤتمر حول العالم.

فى منتصف عام 2023، كانت المفارقة المؤلمة حين وجد نفسه فى مواجهة حقيقة لم يكن يتوقعها. لم يُصب بالميلانوما، المرض الذى كرس حياته لدراسته وعلاجه، بل واجه أحد أكثر أنواع السرطان شراسة، فقد أصيب بالورم الأرومى الدبقى (Glioblastoma)، وهو نوع من سرطان الدماغ المعروف بقدرته على النمو السريع وصعوبة علاجه. فكانت لحظة صادمة، ليس فقط له، بل لكل من عرفه وعمل معه.

لكنه، وكعادته، لم يتراجع أمام هذا التحدى، لم يرضَ بأن يكون مجرد مريض يتلقى العلاج التقليدى؛ بل قرر أن يخوض تجربة لم تُجرَّب من قبل، وهى علاج مناعى تجريبى قبل الجراحة، وهو أمر لم يكن مطبقًا على هذا النوع من السرطان من قبل.

كانت الأيام الأولى من العلاج مزيجًا من الأمل والقلق. جلس فى غرفته بالمستشفى، يفكر فى كل المرضى الذين التقى بهم خلال مسيرته، فى كل الوجوه التى رأى فيها الخوف، ثم رأى فيها الأمل بعد أن قدّم لهم التشخيص الصحيح والعلاج المناسب. والآن، وجد نفسه فى موقعهم، يختبر نفس المشاعر التى كان يراها فى عيونهم، ولكنه لم يشعر بالخوف، بل شعر بأنه حتى فى مرضه، ما زال يؤدى دوره كطبيب وعالم وإنسان يسعى لأن يترك أثرًا.

مرّت الأشهر، وجاءت الأخبار المبشرة. كانت الفحوصات الأولية تظهر أنه لا يوجد أثر واضح للسرطان، فشعر لوهلة أن المعجزة قد حدثت، وأنه ربما قد يكون فتح بابًا جديدًا للأمل لآلاف المرضى الذين سيأتون بعده.

كان سعيدًا، ليس فقط من أجل نفسه، ولكن من أجل العلم، ومن أجل المرضى الذين يمكن أن يستفيدوا من هذه التجربة فى المستقبل.

فى مارس 2025، لم تدم الفرحة طويلًا مع هذا المرض اللعين، فعاد الورم مرة أخرى، هذه المرة بشكل أكثر شراسة.

فى الأيام الأولى من الشهر خضع لعملية جراحية، ولكنها لم تنجح فى إزالة الورم بالكامل. جلس مع عائلته، ينظر إلى وجوههم، وهو يعلم أن الوقت المتبقى أصبح محدودًا جدًا.

وفى وقت لاحق، صرح فى لقاء تلفزيونى مع «القناة التاسعة» الأسترالية «أنا لست مستعدًا للموت الآن» فى إشارة لأمله فى استكمال مسيرته البحثية ليستفيد أكبر عدد من المرضى بالتجربة - رغم اعترافه بأن العملية الجراحية أثرت عليه بشكل سلبى -، كما قال حين سُئل عن المدة المتبقية له «قد تكون أيامًا أو عدة أسابيع قليلة»، يرجع ذلك كون المرحلة الحالية فى العلاج تقتصر فقط على الأدوية التقليدية، فلا يمكن أن يخضع للعلاج الكيميائى أو الإشعاعى. 

ريتشارد لم يُظهر حزنًا أو يأسًا. على العكس، قال والابتسامة ترسم بوضوح على وجهه «لقد حصلت على وقت إضافى لم أكن أتوقعه، وقد استمتعت بكل لحظة فيه».

كان شخصًا استثنائيًا، لا يبحث عن الشهرة، ولا عن الألقاب، بل عن القيمة الحقيقية للحياة. علمنا أن المحنة قد تكون فرصة، وأن الصراع مع المرض ليس مجرد معركة جسدية، بل هو اختبار للعزيمة والإيمان. والأهم، علمنا أن العطاء لا يتوقف، حتى عندما يكون الإنسان فى أقسى لحظات ضعفه.

ربما لم يستطع هزيمة المرض، لكن ريتشارد سكولير انتصر بطريقة أخرى. انتصر حين قرر أن يجعل من معركته نورًا لغيره، وترك إرثًا سيعيش طويلًا بعد أن يغادر هذا العالم.