العسل الذى يقطر من أصابع زينب

من هى زينب البحرانى؟ إنها كاتبة سعودية من مواليد الخبر. أبعد ما تكون عن الوسط الحافل بالمجاملات الأدبية والصفحات الملونة الفاخرة فى مجلات نسائية. إنها تعشق الكتب والكتابة بجدية الرجال واهتمام النساء وشغف الأطفال. عرفت أعمالها عن قرب، وهى بالفعل طفلة فى ثوب امرأة، وامرأة بعقل رجل، ورجل بحفاوة آنسة! هى (فتاة البسكويت) باختصار؛ وهو عنوان مجموعتها القصصية الأولى الصادرة فى البحرين. لم أهتم وقتها بمعرفة التاريخ الأدبى للمؤلفة فى غمرة البحث الدائم عن أرواح شابة ودماء جديدة غير السائد فى إثناء محاولات التحرر من الصالونات الأدبية وقوائم البوكر وحفلات التوقيع بكل ما لها وما عليها. لكنك بالبحث عن رحيق زهرة جديدة تنمو فى الظل، لا بد أن تجد ما تكتبه زينب البحرانى هنالك. أذكر أننى كتبت عن كتابيها (مذكرات أدبية فاشلة) - وهى ليست كذلك أبدًا! - و(على صليب الإبداع) قبل أن أقرأ روايتها الأخيرة (هل تسمح لى أن أحبك؟).

تتصدر الرواية عبارة من (عندما ابتسم الليل) لجسيكا هارت: «المشكلة هى أننى واقعة فى حبّك حتى أذنى، فهل يمكنك أن تحبنى أيضًا لكى أشعر بالتحسُّن؟» والقول وقائلته يشيران بوضوح إلى ما لم تكن الأديبة بحاجة إلى تأكيده عدة مرات فى صدر روايتها: «يرجى من ذوى الأمزجة النمطية أخذ الحيطة والحذر... قد يكون الأديب العربى هو الأديب الوحيد المضطر لتبرير نص من نصوصه... هذه ليست رواية رائعة ترضى أذواق مُحترفى الكتابة، بل مجرد كلام فى الحب الذى فقدناه وفقدنا أنفسنا بفقده، مجرد حكاية يستطيع أن يفهمها القارئ البسيط الذى أعتبره صديقى الحقيقى ورهانى الأكبر». فالرواية تكشف نفسها بنفسها للقارئ من السطور الأولى، بل من العنوان الذى يداعب قصيدة نزار قبانى، هل تسمحين لى أن أحبك؟. النص هادئ جميل لا يتظاهر بالعمق ولا يتفلسف: الكلمات أقرب إلى رسائل المراهقين وبدايات الحب وبطاقات الأطفال، وهنا يكمن سحرها. الرواية قصيرة شهية تنهيها فى ليلة واحدة. لا وجود لعراك درامى مفتعل أو تحليل نفسى متحذلق. هناك عشرات الكتب المهملة لأنها ثقيلة الظل بالرغم من النياشين ومقالات الإشادة، لكن كتابها نسوا مسألة بديهية: أننا نقرأ لنستمتع قبل أى شيء. امنح الكاتب عدة صفحات فإذا لم يشدك عالمه، ضع الكتاب على الرف وانس كل شيء عنه! لكن زينب البحرانى تملك هذه الموهبة التى تجعلك تتقيد بصفحاتها دون ملل. تبدأ فقراتها بجمل شيقة من البداية: (هل وقعتم من قبل فى الحب- مر يوم ويومان وثلاثة- نعم، أريد شيئًا آخر- الحب كالموت يغير كل شىء-...)
توجد فى قصة الحب هذه تعبيرات شاعرية كثيرة تليق بالمقام: (أحببته بقلب مجنون الخفقان- كبرت من الداخل عشرين سنة فى أسبوعين- أريد أن أجلس معه أطول، وأن أعرف عنه أكثر، وأن أبقى معه إلى الأبد، لكننى لا أستطيع الاعتراف بذلك- قد يكون فى الكلام خلاص من الألم الذى بدأ يأكلنى فى الأيام الأخيرة مخربًا مذاق اللذة).
بالرغم من بساطة القصة فإنها تعبر عن عالم متعدد متعايش فيه الناس وهناك سياحة جمالية فى العادات والعتقدات والأفكار، والشخصيات والمشاهد الأكثر اختلافًا، لكن العاطفة المشبوبة هى التى توحد كل ذلك وتلحم كل الأجزاء فى نص متزن واضح المعالم؛ «يجوز أن يكون التنوع شكلًا من أشكال المساواة» على حد تعبير الأديب ماريو بارجاس يوسا.
إن الخيط الرهيف للرواية قائم على نسخة العشق من الحياء، وهو الحب الذى يتجاوز الإنسانية المحبة/ المحبوبة بطلة الأحداث ليتملك حياتها بكل تفاصيلها، وهو العشق نفسه الذى يجعلها تلتصق بالحياة وبألوان الرسام بطل الرواية؛ كما كان الحلم هو الفضاء العام لملفوظ جيوم دولوريس فى (رواية الوردة) الذى يمجد تجربة الإنسان الذى يقتحم غمار المغامرة ليبلغ قيم المحبة حتى يصبح رباط العشق أسمى من روابط أخرى. كل هذا الوله تغلفه زينب البحرانى بطبقة دافئة من السكن، بالضبط كالشهد الرائق الذى يسيل من الحلوى الشرقية المعروفة باسم (أصابع زينب)!