مفاتيح القلب

قلبى ومفتاحه دول ملك إيديك 

ومساه وصباحه بيسألنى عليك 

كان من المفترض أن يكون عنوان المسلسل هو (الحب كله) وكانت أغنية أم كلثوم ستشاركنا الموقف لولا أن مسألة الحب هنا تحت الفحص لا يمكن الجزم بطبيعتها أو مداه.

وفكرة الأحداث قيل إنها عن مافيا تجارة العملة لكنك بالكاد تنتبه لها كما سنعرف بعد قليل.

طبعًا كانت هناك دعاية قبل بدء العرض منها أن آسر ياسين يقوم بدور رجل أعمال يتورط فى جريمة غسيل أموال! ولابد عرفت أنه مجرد شاب طيب عاثر الحظ يبحث عن علاقة.

المشاهد الأولى للمسلسل تحدد الهدف من السيناريو: البحث عن قيمة. كاميرا درون شاردة تحيط بمنطقة الأهرامات فتنقل لك صورة شاملة للبناء الأثرى الكبير وسفحه الرملى الهائل قبل أن تتوغل فى المناطق الشعبية المحيطة تدمج البيوت الفقيرة مع أبراج الأثرياء الُجدد فى صورة واحدة ونسيج متناقض.

 

 

 

عمارة أسعد تنتصب أمام محل عم نصر بائع الطعمية، أولاد الحوارى يلعبون ببساطة أمام معرض أجهزته الكهربائية الذى يدر الملايين ويتستر على عمليات مشبوهة متنوعة.

على أطراف الشموخ الحضارى العظيم تشتبك تفاصيل يومية كثيرة أغلبها مثير للحزن والشفقة.

كان حبك شمعى فى يوم عيدى 

وطفاه الدمع وتنهيدي/ 

التاجر الكبير طلق زوجته مرارًا ولابد من مُحلِّل، ستجده بنفسها لأنه غيور أكثر من اللازم، لكنها ستقع فى حب الزوج الجديد.

موضوع مُعاد يسهل أن يتحول إلى حكاية خائبة أخرى. بتمكُّن واقتدار أدار المخرج تامر محسن العمل (ويظهر بنفسه فى أحد المشاهد وهو يُقدم محمد عزت «آسر ياسين» بعد التعديل من سائق هائم إلى مدرس فيزياء لامع) وكما ترى فالأسماء دارجة وعادية تقابلها كل يوم (نصف الشعب اسمه محمد، أليس كذلك!).. مى عز الدين اسمها ميار وليس باكينام هانم السويفى أو صافيناز خورشيد الحسينى، الأسماء ذات الدلالات انفردت بها الشخصيات الثانوية (التى فازت بموقع الصدارة مرارًا).

مُهجة (عايدة رياض أم أسعد فى دور بديع للمحبوبة القديمة لصاحب المطعم الذى يدس لها رسالة حب فى الطعمية، أداء هادئ وبالعينين فقط قام بالواجب وزيادة فتفوقت على جميع السيدات الشرسات أمهات المعلمين الخارقين فى المسلسلات الأخرى!).

عم نصر (المونولوجيست الظريف محمود عزب الذى يعرفه جيلنا باسم «عزب شو» ولم نكن نعرف من موهبته إلا تقليد الفنانين، يقوم بدور الطعمجى الحالم الذى يلجأ لصديقه المحامى لمراسلة حب عمره على طريقة سيرانو دى برجراك فتقع الرسالة فى يد أسعد ليتورط الصديق بالزواج من الأم فيما يُشبه كوميديا الأغلاط وقصص الحب بالخطأ فى حلم ليلة صيف).

شادى (أشرف عبدالباقى، المحامى المتواضع يكفل بناته الثلاث فلا يجد غضاضة من العمل عند أسعد ولا من الاعتراف لمهجة بأنه استفاد من الزيجة ماديًا لا عاطفيًا، ومع ذلك لا تمقته كمُشاهد لكنك تتعاطف مع صدق الحالة).

عالية (تقى حسام فى دور أخت أسعد والجانب النظيف المستقل للنماذج المضطربة حولها، تكرس وقتها لمصنع إعادة تدوير البلاستيك والورق وفى ممارسة الرقص المسرحى الذى يتعامل معه حبيبها إسماعيل «أحمد خالد صالح» على أنه.. رقص!

وبالتالى يتحول من خلاف بسبب الغيرة إلى نقطة ابتزاز أمام أخوها الشرس. وبالتالى تحتقره تمامًا ليخطب بنت شادى الشناوى المحامى التى كانت تضع عينها على محمد عزت وتستمر الحياة تلهو بنا وتلعب).

(2)

من يوم ما إيديك لمست إيدي/ وكإنك قلت يا نار إيدى

ومادام مشغول يا حبيبي/ مش كنت تقول يا حبيبى

أنت لا تفقد التتابع ولا تشعر بالملل لأن الشخصيات تتحرك وتنمو وتتطور أمامك (القصة والحوار لتامر محسن ومها الوزير).

ميار تنتقل من حالة البطة الوديعة لتعرف أبعاد العالم الآخر مع حبيب تستطيع أن تتبادل معه الكلام بل إنه يتردد ويستحى ويرتبك كأى إنسان فليس الجميع يحملون المسدسات خلف ظهورهم ويخفون الجثث تحت بيوتهم ويطلبون قائمة الطعام بأكملها فى المطاعم مثل أسعد.

 

 

تلاحظ الفارق بين ما كانت ترتديه فى زيارتها لكباريه صهللة حيث عملت سابقًا وعنايتها بهيئتها مع محمد، وها هو محمد الجامعى المثقف الذى فشلت شركته ليقود سيارة لتوصيل الركاب يتخلى عن تخشبه وسذاجته (التى يعترف بأنه ينتبه لوجودها ويشرحها بوضوح على أنها اختيار لسلوك واضح غير متلون بين البشر لدرجة أنه يتعرض لمكيدة من إسماعيل لمجرد أنه لم يشأ أن يكسفه) فهى تصفه بأنه يشرح الفيزياء للطلبة كأنه إنسان آلى فيخرج من جموده وتتحول دروسه إلى تطبيق عملى تتفاعل فيه الإلكترونات الخاملة بينهما فيحدث ما يُشبه الانصهار/الانشطار النووى الذى قد ينير العتمة أو يدمر كل شيء.

محمد جاء من خلفية ثقافية مختلفة يسمع أغانى أجنبية لا تفهمها ميار حتى الأغنيات العربية القديمة يختارها مما له إيقاع غربى، قبل أن تزوره فى بيته ويغلق فيديو درس الفيزياء ويندمجان فى لقاء عاطفى ننساق إليه بنعومة على نهاوند فريد الأطرش إذ نسمع (قلبى ومفتاحه) لأول مرة بينما العمل يقترب من نهايته.

غناها فريد فى (رسالة من امرأة مجهولة) وكلماتها تصف بدقة حالات الحب العجيبة إذ ينفجر من لمسة يد ويستحيل الجبار طفلًا بقدرة قادر.

وهذا هو أسعد عبد رب النبى وأداء أكثر من رائع من الفنان (الممثل والمطرب) دياب- ربما درجة أعلى من أداء تدرب عليه بنجاح فى دور شقيق الزوج الطماع اللئيم مع منى زكى فى (تحت الوصاية).

اسم الشخصية المركب يشرحه فى مشهد عابر يبرر الخلفية الدينية فى نفسه وتربيته، فهو يواظب على الصلاة لكنها لا تنهاه عن الفحشاء ولا المنكر، فيلعب مع فتيات البار ليلًا ويعُب من الخمر على نهج سى السيد، التدين شكلانى أما الفساد فحقيقى، لكنه ضحية لهذا الفصام، هكذا يقرر أن تتم زيجة زوجته على غيره حسب الشرع وتنكسر عينه مرارًا أمام العامل الذى يذكره بغضب الرب بالرغم من أن هذا الناصح المأفون حشاش!

لكن لعنة حبه لميار تقوض بنيانه، يطاردها، يكشف سرها، يكاد يقتلها هى ومحمد قبل أن ينهار ويبكى بمجرد أن يفتح الباب وهنا تتذكر أنك كنت تراه فى أغلب المشاهد يرتدى سترة مميزة بحرفين متعاكسين تشير إلى الهيئة المتناقضة التى تكسو حياته وطباعه، وفى مشهد الانهيار سترى سترة تكاد تكون مطابقة بذات الألوان وقد ذابت الحروف وتحولت إلى خطوط ممزقة.

أما الكاميرا الهائمة بين السحب التى أخذتنا من سفح الهرم لحوارى اللبينى، من الكبير إلى الصغير، يقبض تامر محسن على عدستها فى المشهد الوردى البسّام للقاء محمد وميار على سطح حافل بالزهر والغناء وبينما تنغمس معهما فى رقصة هادئة على أغنية باب الجمال لمنير، تبتعد الكاميرا ليتضاءل مشهد ميار ومحمد الذى كان يملأ الكادر بالمرح والورد فتتبدى حدود السطح الحجرية والشقوق وألواح الإعلانات القديمة وأكوام الزبالة ويتضح أنه سطح فندق عتيق فى وسط البلد نرى شيئًا فشيئًا البيوت تنتشر حوله والسينمات تحولت إلى مخازن لأجولة البضائع والأسطح الكئيبة الأخرى تخنق النيل والسماء ويختفى الحالمان فى غابة من الأسمنت.

 

 

(3)

ياللى ما يصعبش عليك غالي/ وف بحر هواك الموج عالى 

والكلمة الحلوة اللى فى بالي/ تحرم لو غيرك قالها لى 

العمل لا يخلو من أخطاء بالطبع، لا داعى لتفنيدها فى هذا المقام- خاصة وقد تحدثنا عنها من قبل، أنا وغيرى - لكنه فى المجمل هو العمل الأجمل.

هكذا يلتف الجمهور حول مسلسل «قلبى ومفتاحه» فيما يُشبه الإجماع، عمل نظيف أنيق متقن (يوجد به موضوع واضح المعالم وشخصيات نصدّقها) كما التف من قبل حول (رمضان كريم) و(الهرشة السابعة) وغيرهما. السباق محموم يشتعل بـ الدم وأخلاق السرقة، بديكورات الصعيد الخرافية حيث كل جدار به ألف أباجورة، الرجال يتنفسون الإجرام والنساء أيضًا، فإذا كنت تنشد راحة الأعصاب ستجد مسلسلات الخيول الفاخرة وحفلات الكوكتيل وسيدات الأعمال التى لا تفهم ما هى على وجه التحديد.