الحــب قبل اللقب

تقرير: بسمة مصطفى عمر
فى عالم يربط الأمومة بالإنجاب فقط، هناك نساء لم يحملن أطفالا فى أرحامهن، لكنهن حملنهم فى قلوبهن، منحن الدفء والرعاية والتضحية، حتى باتت كلمة «ماما» تناديهن حيثما ذهبن، دون أن يكن أمهات بالمعنى البيولوجى.
فى مارس من كل عام، تتجه الأنظار نحو السيدات اللائى قدمن أعظم التضحيات فى تربية أبنائهن، وتكرم بعض اللاتى خرجت أبطالا، وأخريات تحدين الصعاب ليصبح أولادهن من الشخصيات المؤثرة فى المجتمع، وغيرهن ممن تنهال عليهن التهانى والهدايا وشهادات التقدير.
لكن وسط كل هذه الاحتفالات، نسأل: ماذا عن النساء اللاتى لم يحملن لقب «أم» رسميا؟، لأنهن لم يمررن بتجربة الحمل والولادة، ورغم ذلك منحن الحب والرعاية، بقدر لا يقل عن أى أم حقيقية؟
الأمومة لكل قلب
لماذا ينحصر مفهوم «الأمومة» فى الإنجاب فقط؟
رغم أن الأمومة عطاء واحتواء، وهناك العديد من النساء اللواتى احتضن أطفالا ليسوا من أرحامهن، فبيننا خالات، وعمات، وجدات، ومعلمات، وأخوات كبريات، وحاضنات، كن الأم رغم أنهن لم يلدن، ومنحن الجميع حبًا ورعاية بلا حدود.
فهن أمهات بقلوبهن، حتى وإن لم يحملن هذا اللقب.
تسلط مجلة «صباح الخير» الضوء على النساء اللاتى صنعن فارقًا فى حياة من حولهن، وأثبتن أن الأمومة ليست مجرد رابطة بيولوجية، بل هى حالة من العطاء والحب غير المشروط، تستحق التقدير فى كل يوم، وليس فقط فى يوم كل عام هو «عيد الأم».
«الحاجة آمال»ضحت من أجل إسعاد الجميع، هى لم تكن أما بالمعنى التقليدى، لكنها عاشت دور الأم بجدارة فائقة، فهى الخالة والعمة الحنون لأبناء إخوتها، كما كانت الأم البديلة فى كل لحظة احتاجوا إليها فيها، كما تحكى إحدى بنات أخواتها.
وقالت: حين مرضت واضطررت للبقاء فى المستشفى، ولم تستطع أمى الحضور لظروف طارئة، كانت خالتى «آمال» ساهرة بجوارى، راقبتنى وداوتنى، بل حصلت على إجازة من عملها لرعايتى، لم يكن ذلك تصرفا عابرا، ولكن امتدادا لعطائها المستمر، كانت تهتم باستذكار دروسى، وتراجع معى المناهج، وتوقظنى للصلاة فى أوقاتها، وتدفعنى للأفضل فى كل شيء، وكأنها أمى الحقيقية.

لم تقتصر أمومة آمال على أبناء إخوتها، بل امتدت إلى طلابها وزملائها فى المدرسة التى كانت تعمل بها، حتى بات الجميع يناديها «ماما آمال».
هى لم تكن مجرد معلمة، بل أما روحية، تفيض بالحب والدفء والدعاء الصادق لكل من حولها، وجهها البشوش وكلماتها الطيبة كأنها ملجأ للكثيرين، وطاقة حب حية لا تنضب.
أما الجدة «زكية» فبعد زواج ابنتها، لم تتوقف عن دورها فى العطاء، بسبب ظروف عمل ابنتها التى اضطرت إلى السفر كثيرا، كانت الجدة هى الحاضنة الحقيقية للأطفال، وهى التى لعبت دور الصديقة التى تسمع، والمعلمة التى ترشد، والأم التى تربى وتسهر.
فالجدة لم تكن أما ثانية فقط، بل كانت بؤرة للأمومة، تحمل الحنان مع حكمة الزمن، كانت تعامل الأحفاد فتشعر بهم، تعرف احتياجاتهم دون أن يتكلموا، تروى لهم القصص، وترشدهم لدروسهم، وتربيهم على الأخلاق والقيم قبل أن تعلمهم الحساب واللغة.
جسدت الجدة المثل الشهير «ولد الولد أعز من الولد»، بكل ما تحمله الكلمات من معانى، لم تكن ترى فى أحفادها مجرد امتداد لعائلتها، بل كانت تراهم رسالتها الكبرى، أمانتها التى يجب أن تؤديها، لتظل صافية نقية حتى يكبروا.
الطفولة.. أمومة مبكرة
فى بعض العائلات، لا تمنح الطفولة وقتها الكافى، بل تختصر لتفسح المجال لأمومة مبكرة، تفرض على الأخت الكبرى حين تغيب الأم، سواء بسبب الوفاة أو العمل أو الطلاق أو عدم القدرة على رعاية أبنائها بشكل كاف.
فتتحمل الأخت مسئوليات تتجاوز سنها لرعاية أشقائها، فتتحول الطفلة إلى امرأة قبل أوانها، تقدم التضحيات لتملأ الفراغ، وتجد نفسها فى دور لم تختره، لكنها تؤديه بكل ما أوتيت من قوة.
تروى «نهاد يوسف، التى بدأت رحلتها مع الأمومة القسرية، وهى لا تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها، وتقول: نحن 4 أشقاء، وترتيبى الثانية بينهم، ولكننى كنت بمثابة الأخت الكبرى فعليا، والدتى كانت تعمل لساعات طويلة، فكنت أتولى رعاية إخوتى، من تحضير الطعام، ومساعدتهم فى الدراسة، إلى تدبير شئون المنزل، وكان ذلك بمثابة واجب يومى لا ينتهى».
تكمل: ومع مرور الوقت، بدأت الخلافات بين والداى تتصاعد، وغادرت أمى المنزل وتركتنا، وكان أصغر إخوتى لا يزال رضيعا، لم يكن أمامى خيارا سوى احتضانه ورعايته، حتى أنه بدأ ينادينى بـ «ماما».
وتتابع، لم أملك رفاهية العيش كطفلة، بل كتمت احتياجاتى لأكون أما بديلة، ولم يكن هناك وقت للحلم، كبرت قبل أوانى، لكننى لم أدرك ذلك وقتها، وكنت فقط أحاول أن أبقى الجميع بخير، وكان والدى يوفر لنا الاحتياجات المادية، لكن المسئولية الحقيقية كانت على عاتقى.
فى كثير من الفصول الدراسية، هناك معلمة لا تكتفى بدورها الأكاديمى، بل تحتضن طلابها كأم، تشاركهم مخاوفهم، تفرح بنجاحهم، وتغرس فيهم القيم والتوجيهات التى تبقى معهم مدى الحياة.
«هيام محمود»، معلمة لغة عربية، تجسد هذا الدور، وتقول: فى كل عام، أستقبل جيلا جديدا، وأشعر أننى مسئولة عنهم ليس فقط فى تدريس المناهج، بل فى دعمهم نفسيا واجتماعيا، طلابى يأتون من مراحل مختلفة، ورغم مرور السنوات، يعود الكثير منهم ليشاركونى أخبارهم ودراساتهم الجامعية، لأنهم يروننى أكثر من مجرد معلمة، ولكن أما لهم.
ولا يقتصر دورها على الفصل الدراسى، إذ تحكى أن طلابها يلجأون إليها فى العديد من المواقف الحياتية، طلبا للنصيحة والمساندة، ولم يكن تقديرهم مجرد كلمات، بل امتد إلى تقديم شهادات تقدير، وهدايا مفاجئة تعبيرا عن امتنانهم العميق لدورها الذى تجاوز حدود التعليم التقليدى، ليصبح نموذجا حيا للأمومة بالفطرة.

أمهات ولدن الحب
لم يحملن أطفالا فى أرحامهن، لكنهن حملنهم فى قلوبهن، حملن مسئوليتهم على عاتقهن، واحتضنوهم فى كنفهن، دعموهم فى مواقفهن، وبذلن الغالى والنفيس بلا مقابل، تاركات بصمات لا تمحى فى حياة من حولهن، هن نساء لم يمنحهن القدر لقب «أم»، لكنهن استحققنه بجدارة، حتى باتت كلمة «ماما» تليق بهن أكثر من كثيرات، هن الأمهات بالفطرة، بحنانهن، وعطائهن، وبحب ولد معهن فى قلوب الآخرين.