الواقعية إذا وقعت!

د. هانى حجاج
الواقعية هى انعكاس للحياة الحقيقية، كما قال فونتانه، وتريد أن تُعبِّر عن عالم تكون فيه العلاقات أوضح مما هى عليه فى العالم الحقيقى، ولا بد من أن تعبر عن الجوهر الداخلى للأشياء، على رأى أوتو لودفيج. أى أنك لن تجد فى أى حى شعبى فتاة تعمل لدى كوافير متواضع قد وضعت فى غرفتها بوسترات عملاقة لنجوم أغانى المهرجانات.
وجود صور للفنانين مجرد تقليد مضحك حتى فى مسلسلات التسعينيات. تفاصيل كهذه تجعلك تنفصل رغمًا عنك عن التماهى مع هدى المفتى فى مسلسل (80 باكو)، الإسراف فى مفردات حياة النسوة الشعبيات، عوجة الفم واللسان والتشدّق المستمر باللبان لن يجعلنا ننبهر (هما إزاى عارفين كل الحاجات دى عننا؟!) هذه الحيلة كانت سارية قبل عصر انتشار الأفكار واندماج الطبقات، توجيه بطلة المسلسل لتركيز طاقتها فى نقل شخصية حقيقية من عالم فيديوهات الواقع الافتراضى يبعدنا عن الحكاية نفسها. ملابس ناهد نصر الله تشى بالصدق كالعادة، سيناريو معقول لغادة عبد العال اجتهدت المخرجة كوثر يونس فى تنفيذه عدا أن الحماس فى إبراز تفاصيل الحس الشعبى صرف ذهنها عن دمج خطوط الحكايات، فتنشغل كمشاهد مع الفنانة انتصار كموضوع مستقل كما تشعر بأن خطيب البطلة بوسى ومغامراته فى مشاريع فاشلة مع صديقه كل ذلك يسير فى مسلسل مختلف داخل المسلسل الأصلى، هكذا يضيع تركيز هدى المفتى فورًا عندما تشتبك بعواطفك مع أداء المخضرم محمد لطفى إذ يتقرّب من جارته صاحبة محل الكوافير لأنك تبدأ فى التفاعل مع موضوع حقيقى عندما تمل التلميحات إياها وهزار النساء فى مجالسهن الخاصة.

عندما انتشرت بوسترات الدعاية لمسلسلات رمضان 2025 أفلت أفيش (قلبى ومفتاحه) من التيمة المكررة (البطل المتخشّب فى منتصف الصورة وإلى يمينه ويساره اصطف الآخرون)، بصورة لطيفة للبطل والبطلة مع لمسة واقعية احتفظت بخلفية من شارع تقليدى. اعتنى المخرج تامر محسن برسم الشخصيات التى ستقدم لك قصة مختلفة لفكرة (المُحلَّل): الزوجة ميار (مى عز الدين) مثل الكثيرات، امرأة جميلة بلا طموح ولعل خبرتها محدودة وتعليمها متوسط ليست هى أول واحدة تتزوج لتجد من ينفق عليها وعلى أمها، لا مجال للتمرد والاستقلال بحال، حتى بعد الانفصال تمكث فى مسكنه وهو بيت عائلة فخم ضخم يتعالى بوقاحة فى صدر حى شعبى وليس هذا من باب الخطأ، فأمثال تلك الأبراج فارهة التأثيث ذات اللمسة الريفية موجودة بالفعل فى ضواحى الجيزة أقامها تجار وسماسرة أثروا من بيع الأراضى فيمارسون دور عمدة رأسمالى بشكل ما، نفوذ وصفاقة وبعض الممارسات المشبوهة ربما مثل الزوج أسعد (دور مميز جدًا لمحمد دياب) المشكلة أن رصيد مرات الطلاق بينهما نفد ولا بد من (عريس حسب الطلب) الذى نعرف من البداية أنه محمد (آسر ياسين فى أداء بارع بعد أن غرق لسنوات تحت جلد عمر فى مسلسل ميت وش). ميار لها طفل, وبالتالى هو ورقة الضغط الأهم إلى جانب المال فى يد الزوج الأحمق الذى أفلتت زوجته من عصمته. فى الحلقات الأولى تأسست الصفات والدوافع بعناية: ميار زوجة فاتنة بلهاء خفيفة العقل لها مغامرات عابثة فى الماضى تناسب سذاجة تكوينها، لا تفخر بها ولا تستحى منها ولا ترجو من الحياة إلا العيش فى سلام. أسعد طائش أرعن يتأرجح بين ارتكاب خطايا والخوف من غضب الله الذى لا يكف عبيط المحل عن توجيهه نحوه طيلة الوقت، هل يمكن للرجل الذى كاد يقتل الحداد الذى طلبته زوجته لتغيير مفتاح الباب أن يرحب بأن تمارس طليقته حياة زوجية كاملة مع رجل آخر حتى لا يخالف الشرع قبل أن تعود إليه؟ نعم، هذا يحدث والتناقض هنا إنسانى وستجد فى كل مكان من يلتهم حقوق الناس بضمير ناعس لكنه ينتفض بعنف إذا وجد الحذاء مقلوبًا. تمثيل دياب عظيم فعلًا بالرغم من أن عمره الفنى أقل بكثير من مى وآسر فليس من السهل الصمود أمامهما وإذا استبدلته بشخص آخر ستفلت منه الأمور ببساطة ولن تجد سوى زوج غشيم آخر تتأفف من مشاهده بسرعة. محمد، سائق يتبع أحد تطبيقات توصيل الركاب، حياته مرتبكة وربما لأسرته خلفية أرستقراطية تداعت تحت ضغط المستجدات الاقتصادية وهى وضعية تناسب تكوين آسر الشكلى والثقافى، هكذا سوف تجده فى الحلقة الأولى يستمع لموسيقى أجنبية، هى تحديدًا أغنية (أهلا بك فى فندق كاليفورنيا) بمثابة استهلال لما ينتظره، فالأغنية تتحدث عن عابر سبيل شاب على الطريق الصحراوى، وحيد بلا صحبة وبلا امرأة، وها هى أضواء الفندق تناديه، وبين الأنوار المبهرة ظلال مخيفة، طبعًا ستعرض عليه ميار الزواج الخاطف وأنت تعرف أن أسعد لن يسعد! كما قدم لك المخرج لقطة مثيرة لخزانة الزوج يكنز فيها الدولارات والسبائك وستعرف أنه بخيل لا يسمح لزوجته بارتداء مصاغها إلا للاستعراض أمام الجارات ثم يتحفظ عليها من جديد فى مغارة على بابا، فيما يبدو أنه سيجعل النهاية-إذا خفت الإيقاع- تعتمد على حصول محمد وميار على الكنز وعلى الطفل وأن يُعاقب أسعد بشكل ما.

هل يحاول تامر محسن أن يقترب من الجميع فيركز على بعض التفاصيل أكثر من اللازم؟ هذا سلاح ذو حدين يقتضى استعماله الحرص على الدقة والاستفادة بمفردات المشهد فى الاشتباك مع عقلية المشاهد. على سبيل المثال، ثمة حكاية جانبية لصاحب المطعم المُتيَّم بأم أسعد، صاحبه (البارع أشرف عبد الباقى فى دور محام وخال محمد فهو بشكل ما همزة وصل بين طرفى الموضوع) ينصحه بدس رسالة غرام فى قرص طعمية يقع فى يد أسعد كما هو متوقع، هذه حركة كوميدية تتقنع بتوتر بوليسى، لكن لماذا أمضينا ثلث وقت الحلقة تقريبًا ونحن نشاهد عملية تقطيع الخضار وعجن الطعمية وتنديتها بالماء وقليها بينما جاءت مشاهد محمد وميار مبتورة فجأة؟ المفروض أن يكون هذا التركيز سببًا فى تأكيد الثقة بأن المخرج يعرف عما يتحدث، لكننا نعرف أنهم لا يقطعون البقدونس بالسكين قبل وضعه فى مفرمة الطعمية ولا يضاف الماء بعد العجن النهائى أبداً، هل نحن نتصدى للتفاصيل الفارغة؟ أنت من قدمت التفاصيل وجاءت غير دقيقة! كذلك فى مشهد الزواج العرفى بين محمد وميار كان من الممكن تمرير الموقف بهدوء ولن نتساءل عن المعقولية القانونية بالرغم من كونها أساس الاتفاق بين ميار وأسعد ولن نتوقف أمام سذاجة محمد فهو يائس بما يكفى ليقتنع بأن أول امرأة بيضاء سهتانة منمقة التقاسيم هى حبيبته منذ الأزل ولن يزعجنا صوت ميار الذى أرادته مقهورًا حائرًا لدرجة أنه غدا شديد الخفوت رغم أن الملابسات فرصة لنرى أثر اندفاع الأدرينالين عليها، كل هذا تنبهنا إليه عندما أصر المخرج على الإمعان فى تأكيد واقعية الحدث بزووم على بطاقة ميار الشخصية لنرى أنها تسكن فى التجمّع لا اللبينى وأنها مطلقة، لكنه نسى أن يتأكد من أن الحالة الاجتماعية للمطلقات والأرامل لا تدوَّن فى البطاقة بل إن العامل فى متجر أسعد يخبره أن ميار ذهبت إلى السجل المدنى لتتسلم بطاقتها الجديدة بنفسها وعلى وجه السرعة، هذا سبب أدعى لأن تطلب محو حالتها لا تثبيتها!