
عادل حافظ
يورو «جان مونيه»
«كونياك» الفرنسية - هى مدينة وبلدية فى إقليم شرنت فى جنوب غرب فرنسا، حيث نشأ جان مونيه فى كنف عائلة تعمل بالتجارة. لم يكن يدرك حينها أن هذه البيئة التجارية ستشكل وعيه بالعالم منذ نعومة أظافره.
كان منزل عائلته أشبه بمحطة دولية، حيث التقى بعملاء من مختلف الدول، واستمع إلى لغاتهم، وراقب أساليب تفاوضهم، فتشكلت لديه رؤية مبكرة عن أهمية التواصل والتعاون بين الشعوب.
لم يكن جان عمر مارى جابرييل مونيه طالبًا شغوفًا بالمدرسة، وكان يؤمن بأن التعلم لا يقتصر على الجدران الأربعة. فعندما بلغ السادسة عشرة من عمره قرر والده إرساله إلى لندن لاكتساب الخبرة العملية فى إدارة الأعمال وتعلم اللغة الإنجليزية، وبعد ذلك، أرسله إلى كندا والولايات المتحدة وروسيا ومصر فى رحلات عمل.
فى تلك الفترة، لم يكن يكتفى بممارسة التجارة، بل كان يراقب الأسواق، ويحلل العلاقات الاقتصادية، ويفهم كيف يتم بناء المصالح بين الدول. لم يكن يعلم - آنذاك - أن هذه الخبرات ستكون الأساس لفكره الذى سيغير أوروبا لاحقًا.
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، لم يُسمح له بالانضمام إلى الجيش لأسباب صحية، لكنه لم يقف مكتوف الأيدي. بفطنته التجارية، أدرك أن الحرب ليست مجرد معارك، بل تعتمد بشكل أساسى على الإمدادات والموارد. لم يكن جنديًا فى ساحة القتال، لكنه كان استراتيجيًا فى ميدان التخطيط. اقترح على الحكومة الفرنسية - آنذاك - إنشاء آلية مشتركة مع بريطانيا لتنسيق الإمدادات العسكرية، وهو ما تم تطبيقه بالفعل. أثبت نجاحه فى إدارة الموارد أنه ليس مجرد رجل أعمال، بل صانع سياسات قادر على بناء جسور التعاون بين الدول فى أحلك الظروف.
بعد الحرب، عمل نائبًا للأمين العام لعصبة الأمم، حيث بدأ يفهم تعقيدات الدبلوماسية الدولية. لكنه سرعان ما أدرك أن العصبة، رغم نواياها، لم تكن قادرة على منع النزاعات الكبرى بسبب غياب الآليات الحقيقية للتكامل بين الدول.
بعد سنوات قليلة، انخرط فى عالم التمويل، حيث عمل كمستشار اقتصادى لعدة حكومات. ومع كل خطوة كان يخطوها، كان يوسع شبكته الدولية، ويكتسب فهمًا أعمق لكيفية عمل الاقتصاد العالمي.
لم يكن مونيه سياسيًا بالمعنى التقليدى، لكنه كان صاحب رؤية. خلال الحرب العالمية الثانية، اقترح فكرة جريئة على رئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل والرئيس الفرنسى شارل ديجول، وهى إنشاء اتحاد سياسى فورى بين فرنسا وبريطانيا لمواجهة الخطر النازي. لكن لم يتحقق هذا المشروع، لكنه كشف عن طموحه فى بناء وحدة أوروبية.
وبعد انتهاء الحرب، عندما كُلِّف بوضع خطة لتعافى الاقتصاد الفرنسى، لم ينظر إلى الأمر من زاوية محلية، بل فكر فى أوروبا بأكملها. فذُكر فى موقع الاتحاد الأوروبى أن من أشهر اقتباساته قوله «استمروا، استمروا، فلا مستقبل لشعوب أوروبا إلا فى الاتحاد».
رأى مونيه أن مفتاح السلام لا يكمن فى المعاهدات السياسية وحدها، بل فى المصالح الاقتصادية المشتركة. وهكذا، ولد مفهوم «خطة شومان»، التى اقترحت دمج إنتاج الفحم والصلب بين فرنسا وألمانيا، مما يمنع أى صراع مستقبلى بينهما. لم يكن هذا مجرد تعاون اقتصادي. قال فى مذكراته حسب موقع مؤسسة جان مونيه: «يجب أن نبدأ بإنشاء «أسس مشتركة للتنمية الاقتصادية»، أولاً للفحم والصلب، ثم لمجالات أخرى».
فى عام 1951، كانت الخطوة الأولى نحو ولادة التجمع المشترك الأوروبى للفحم والصلب، والتى ستصبح فيما بعد نواة الاتحاد الأوروبي. كما قال مونيه: «نحن لا نشكل تحالفًا بين الدول، بل نوحد الناس».
لم يكن مونيه يسعى إلى الأضواء، ولم يتولَّ مناصب سياسية رسمية، لكنه كان العقل المدبر وراء مشروع الوحدة الأوروبية. آمن بأن أوروبا يجب أن تتحد ليس بالقوة، بل عبر التعاون التدريجى والمصالح المشتركة. بفضل رؤيته، لم يعد الصراع بين الدول الأوروبية هو القاعدة، بل أصبح التعاون هو المبدأ الأساسي.
أدرك منذ صغره أن العالم ليس مجرد حدود سياسية، بل شبكة من المصالح والعلاقات التى يمكن أن تصنع السلام إذا تمت إدارتها بحكمة. وهكذا، لم يكن مجرد رجل أعمال، بل كان رجلًا آمن بأن التغيير الحقيقى يبدأ حين يفكر الإنسان خارج حدود وطنه، ويؤمن بأن ازدهار بلاده لا ينفصل عن ازدهار الآخرين.
واليوم، وبينما ننظر إلى إرث جان مونيه، سنجد إلى جانب عملة اليورو أن حياته تحمل دروسًا عميقة يمكن أن تُلهم أى شخص يسعى إلى إحداث فارق فى حياة نفسه والآخرين.
تعلمنا قصته أن التغيير لا يحتاج إلى منصب رسمى، فعلى الرغم من أنه لم يكن سياسيًا منتخبًا، إلا أنه غيّر وجه أوروبا أكثر من كثير من القادة الرسميين، ما يثبت أن التأثير لا يحتاج إلى سلطة، بل إلى رؤية واضحة وإصرار على تحقيقها.
الأعمال العظيمة لا تحتاج إلى الأضواء.