الأربعاء 12 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عمر الشريف عودة الابن الضال!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

الصدفة وحدها وضعتنى فى موقف ترتب عليه تمكنى من إعادة عمر الشريف إلى جمهوره المصرى والعربى بعد أن خطفته السينما العالمية فى هوليوود وأصبح من أبرز نجومها، إن لم يكن الأبرز. ومرت عقود من الزمن انقطع فيها تماما عن التواصل مع مصر والعالم العربى، وترددت عنه شائعات تسىء لسمعته ووطنيته بسبب هذا الانقطاع.

 

 

 

جاء عمر الشريف إلى لندن ليقوم ببطولة مسرحية على أحد أهم المسارح، فتطلعت رئيسة تحرير مجلة «سيدتى» حيث كنت أعمل وقتها، لأن يتم إجراء حديث مع النجم المصرى العالمى عمر الشريف، وطلبت من المحرر الفنى والناقد السينمائى اللبنانى المعروف محمد رضا والذى يتعاون مع صحف الدار التى تصدر منها «سيدتى» أن يقوم بهذه المهمة، ومضت فترة جاء بعدها وقد اعتراه الخجل وقدّم لها رسالة بخط يده تتضمن اعتذاره لفشله فى تحقيق هذه المهمة!

فعرضت عليّ مقابلة عمر الشريف وأطلعتنى على خطاب اعتذار محمد رضا.. وقد استغربت هذا، فمحمد رضا هو الصحفى الفنى العربى الوحيد الذى يعرف هوليوود ونجومها فهو يمضى معظم أيام كل سنة هناك ويعرف الكثير عن عالمها ومخرجيها ومنتجيها، فكيف فشل فى التواصل مع عمر الشريف؟

المهم، اقترحت عليّ رئيسة التحرير أن أقوم بمهمة لقاء عمر الشريف، وقالت لى متسائلة، متحدية: هل يمكنك هذا؟ 

قلت لها أننى لا أعرف عمر الشريف شخصيا ولم يسبق لى أن التقيته، لكن دعينى أحاول.

ماذا فعلت؟

اشتريت تذكرتين فى الصف الأول للمسرح الذى يقوم فيه عمر الشريف ببطولة المسرحية، وذهبت مع زوجتى زهرة وحضرنا العرض (للأسف لا أذكر الآن اسم المسرحية) كان عرضا ممتازا وكان نجم السينما العالمى نجما مسرحيا قديرا (عرفت بعد ذلك بسنين طويلة أن عمر الشريف عندما كان يستعد لدخول الجامعة سألته والدته عن تطلعاته متوقعة أن يعلن رغبته فى دراسة الكيمياء أو الطبيعة فقد كان موهوبا فى الرياضيات.. لكنه فاجأها برغبته فى دراسة المسرح والتمثيل.. فهو يهوى التمثيل منذ صغره ويقوم به فى المدرسة الثانوية.. ولم يكن والده يرحب بهذا الاتجاه ويعتبر الممثل مجرد «مهرج متجول» وهو لا يريد لابنه الوحيد أن يضيع فى هذه المهنة.. يريده أن يتفرغ لإدارة تجارة والده ليرثها عنه.. ليصبح تاجر أخشاب كبيرا!).

 

 

 

باقة ورد حلّت المشكلة

 

نعود للمسرح وبعد انتهاء العرض قدمنا له باقة ورد ضخمة كنا قد اشتريناها من قبل، فوجئ عمر الشريف بنا كما فوجئ جميع من حولنا، وبتهذيب شديد حيانا وإذا به يقبّل يد زهرة على الطريقة الفرنسية، قدّمنا له نفسينا وعرّفته بأننى من أبناء مجلة «صباح الخير» لكننى أرغب فى إجراء حديث معك بتكليف من مجلة «سيدتى» التى أعمل فيها هنا فى لندن، فما كان منه إلا أن رحّب بذلك قائلا إن له تاريخا من الحب مع «صباح الخير».. وبعد أن اتفقنا على الموعد أعطانا عنوانه ورقم تليفونه خلال إقامته فى لندن ولم ينس أن يشترط ألا يكون الحديث طويلا، يكفى نصف ساعة، لأنه - كما قال - سريع الزهق!

شعرت رئيسة التحرير بسعادة غامرة عندما أخبرتها بموافقة عمر الشريف، وقالت إنها ستوفر لى مصورا عالميا وأن المجلة ستتكفل بكل مصاريف تذاكر المسرح والزهور، وأى تكلفة أخرى.

جاء الموعد وجاء المصور بمعدات تصوير فوتوغرافى وسينمائى.. مصور هندى شاب كان سعيدا بأنه سيسجل فى تاريخه المهنى أنه صوّر عمر الشريف.. كان مبهورا.

وحضرت زهرة معى هذا اللقاء.

وكانت لدىَّ مشكلة كبيرة، فمن عادتى قبل أن ألتقى أحدا فى حديث صحفى أن أجمع أكبر قدر من المعلومات عنه حتى أستخلص منها أسئلتى، لكننا فى لندن وليست هناك أرشيفات ولا مصادر معلومات.. ولا وقت كاف للبحث. أخذت أسترجع مع زوجتى كل ذكرياتنا ومعلوماتنا عن عمر الشريف، فاسمه الأصلى هو ميشيل شلهوب، ولد ونشأ فى الإسكندرية، التحق بكلية فيكتوريا ودرس الأدب الإنجليزى وكان زميلا ليوسف شاهين وأحمد رمزى وأيضا كان من تلاميذ هذه الكلية حسين بن طلال (الملك حسين فيما بعد) وأغنى أغنياء العرب عدنان خاشقجى. والصادق المهدى (الزعيم السودانى فيما بعد) وإدوارد سعيد (المفكر الفلسطينى) وشادى عبدالسلام (المخرج السينمائى المصرى العالمى فيما بعد: «فيلم المومياء»).

 

حاولنا أن نتذكر حكاية تغيير اسمه إلى عمر الشريف مع أول فيلم له «صراع فى الوادى» أمام سيدة الشاشة فاتن حمامة 1954 فلم نصل لشىء.

نعرف أن من قدّمه للشاشة الفضية المصرية بطلا سينمائيا هو زميله يوسف شاهين.. ونذكر إعجابنا به من أول «صراع فى الوادى» وما تلاه من أفلام مصرية وبريطانية وهوليوودية وإيطالية وفرنسية.

وتذكرنا قصة حبه وزواجه من سيدة الشاشة فاتن حمامة والتحول إلى الإسلام حتى يتم الزواج، فى عام 1955 أى بعد سنة فقط من عمله معها، ونعرف طبعا كيف بدأت خطواته مع السينما العالمية من خلال دور البطولة فى فيلم «لورانس العرب» للمخرج الإنجليزى ديفيد لين ومشاركته النجم الإنجليزى الشهير بيتر أوتول فى بطولة الفيلم.. وكيف قام ببطولة عدد من الأفلام التى يخرجها مكتشفه الإنجليزى فى الستينيات.

ووجد فيه صناع السينما فى هوليوود ضالتهم فى هذا الوجه الذى يتمتع بملامح رجولية مثالية وجاذبية للنساء، ولغة إنجليزية سلسة وقوية وبنية بدنية رائعة التكوين، فتهافتوا عليه ليقوم ببطولات أعمالهم ويحقق لهم ولنفسه أكبر نجاح لم يسبق له مثيل فى تاريخ صناعة السينما فى العالم حتى أصبح «عمر الشريف» علامة نجاح وليس مجرد اسم لإنسان موهوب شرقى الملامح مصرى الروح.

وطبعا تذكرنا زوجتى وأنا، القصة المؤلمة التى ترتب عليها انفصال عمر الشريف عن زوجته فاتن حمامة، فهو خطفته النجومية العالمية وأصبح مشغولا عن زوجته وبيته ويعيش فى الخارج معظم الوقت وهى لا تستطيع أن تترك تاريخها الفنى وعرشها السينمائى وجمهورها وتهاجر معه إلى هوليوود.. ما أدى إلى انفصالهما سنوات قبل إعلان الطلاق فى 1974.

 

 

 

اعتذار للجمهور 

بعد كل هذه المعلومات والذكريات كنت أريد محورا قويا للحديث مع عمر الشريف فقررت أن يكون حديثنا عن حياته فى هوليوود وانقطاعه عن مصر وجمهوره العربى عموما.

وهكذا أصبح هذا الحديث بمثابة «عودة الابن الضال».. فهو يعتذر عن الغياب الطويل ويعلن عن رغبته فى تقديم أفلام مصرية.. وطال حديثنا ليمتد لنحو ساعة ونصف الساعة مع إنه اشترط ألا يزيد على  نصف ساعة.. وكان المصور الشاب المبهور يصوّر كل لحظة..

وبعد صدور هذا اللقاء على غلاف المجلة وعلى ست صفحات داخلها، انتهت القطيعة بين عمر الشريف وبين جمهوره المصرى والعربى، ورأيناه يذهب إلى مصر ويشترك فى أفلام ومسلسلات.

وتقديرا لى ولهذا السبق الصحفى - فعمر الشريف لا يتحدث إلى الصحافة - قدّمت لى المجلة تذكرة رحلة لمدة أسبوعين فى سويسرا بدعوة من وزارة السياحة هناك!

أما الحديث الذى نشر فى «سيدتى» فقد تداولته عدة صحف ومجلات أخرى بعدها.

وبعد سنوات وجدت عمر الشريف يظهر فى لندن والتقيته أكثر من مرة فى حفلات السفارة المصرية فى عيد ثورة يوليو، وفى إحدى هذه الحفلات كان حاضرا وكانت فاتن حمامة حاضرة أيضا مع زوجها الدكتور محمد عبدالوهاب، ورغم كل حكايات وغراميات شاعت عن عمر الشريف فى هوليوود، فإنه لم يتزوج مطلقا.. واعتقادى الشخصى ولعله صحيح، هو أنه كان ما يزال يحب فاتن حمامة!. 

وفى الأسبوع المقبل نواصل