أهل الخطوة!

حنان أبو الضياء
«أولياء المتصوفة زادهم الله بفَرْطِ الحُبّ فيه تَجليًا، فقد أخرجوا الدنيا من قلوبهم ولم يعد سوى الاسم الأعظم هو الرفيق، وجاهدوا النفْسَ وقتلوها بالطاعات فحيت.. لهم مكانة عليا».. هكذا يراهم متبعو المتصوفة، حتى كثرت الحكايات عن الكرامات والتجليات، وللأسف هناك من أدخل على أهم الكتب عن تلك التجليات، وهو «طبقات الشعرانى»، وأضافوا إليه الكثير من الخرافات وخلطوها بما يسمى الكرامات!.
المتصوفة يؤمنون بتلك القدرات، ويؤكدون أن الأقطاب الأربعة (هم: أحمد الرفاعى من الشام، وعبدالقادر الجيلانى من العراق، وأحمد البدوى من المغرب، وإبراهيم الدسوقى من مصر)، كانوا من أهل الخطوة، ويرفضون أن الكرامات مجرد خرافة، ويردون على ذلك بالقول، إن: «الكرامة أمرٌ خارق للعادة يظهره الله على يد رجُل صالح وتنسب فقط للأولياء، وهى غير مقرونة بدعوى النبّوة، والأولياء لا يباهون بما يُجرى الله على أيديهم من كرامات؛ لأنهم يرون أنها مظهر لنعمة الله عليهم، والكرامة يعترف بها أهل السُّنة وبعض فلاسفة الإسلام مثل ابن سينا، وينكرها المعتزلة».
الموروث الشعبى القديم فى الوطن العربى يزخر بحكايات عن الكرامات، ويذكر عبدالوهاب الشعرانى فى كتابه «الطبقات الكبرى» المسماة بـ(لواقح الأنوار فى طبقات الأخيار) قصصًا عن كرامات شيخه وأستاذه على الخواص، فيقول عنه: «كان لا يراه أحد قَط يصلى الظهر فى جماعة ولا غيرها؛ بل كان يرد باب حانوته وقت الأذان فيغيب ساعة ثم يخرج، فصادفوه فى الجامع الأبيض بالرملة فى فلسطين فى صلاة الظهر، وأخبر الخادم فى الجامع الأبيض أنه دائمًا يصلى الظهر عندهم، وهذا يعنى أنه كان من أهل الخطوة الذين تطوى لهم الأرض ليذهبوا أينما شاؤوا».

وقد سأل الشعرانى، الخواص عن أحوال أهل الخطوة من المتصوفين الذين يظهر عنهم الخوارق مع عدم صلاتهم وصومهم، فقال: «ليس أحد من أولياء الله له عقل التكليف إلا وهو يصلى ويصوم ويقف على الحدود، ولكن هؤلاء لهم أماكن مخصّصة يصلون فيها كجامع رملة وبيت المقدس (المسجد الأقصى) وجبل سد إسكندر (السد المذكور فى القرآن) الذى بناه ذو القرنين، وغيرها من الأماكن المشرفة أو التى انكسر خاطرها بين البقاع بقلة عبادة ربها فيها، فأرادوا جبر خاطرها وإكرامها بالصلاة، ومنهم جماعة يصلون بعض الصلاة فى هذه الأماكن وبعضها فى جماعة المساجد، وكان إبراهيم المتبولى يصلى الظهر دائمًا فى الجامع الأبيض بالرملة، فكان علماء حارته ينكرون عليه ويقولون لأى شىء لا تصلى الظهر أبدًا مع كونه فرضًا عليك كغيره من الصلوات الخمس؟، فيسكت. والبعض يؤكدون أن ما يحدث تدعمه قصة ذهاب الرسول «ص» إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات فى وقت وجيز جدّا فى الإسراء والمعراج، كما أن آصف بن برخيا قد أحضر عرش بلقيس ملكة سبأ فى لمح البصر تلبية لأمر النبى سليمان حيث وصف الله علمه بأنه من الكتاب.
جلسات الذّكر
هناك أيضًا ضرب الشيش أحد المظاهر الطقسية لجلسات الذّكر التى يقوم بها شيوخ الطريقة من المتصوفين؛ حيث يتخلل تلك الجلسات استعراضات تتضمن غرس سيخ معدنى (شيش) أو أداة حادة فى جسد «المريد» أو وجهه. وقد يتخلل تلك الجلسات القفز على الجمر أو أكل الثعابين وهى حية. ومن المثير فى تلك الظاهرة عدم حدوث نزيف دموى رُغْمَ اختراق «الشيش» لجسد الشخص من الجانب إلى الجانب الآخر فى بعض الأحيان!
يَعتبر المتصوفون أن من يقوم بذلك الدور يكون لديه «كرامات» من الله أو قدرة فريدة، مع أن تلك الظاهرة لا تقتصر على هؤلاء المتصوفين من المسلمين؛ بل يمكن أن نشاهدها أيضًا فى بعض طقوس الهندوس. ومعظم من يقوم بها إمّا من الطريقة الرفاعية نسبة إلى أحمد الرفاعى، والطريقة القادرية نسبة إلى عبدالقادر الجيلانى. مع العلم أن ضرب الشيش لم يأتِ بها أى من الشيخين المذكورين بنظر الكثير من علماء الدين.
ونقل عن الرفاعى قوله: «وإذا صرف الله تعالى الولى فى الكون المطلق: صار أمره بأمر الله تعالى: إذا قال للشىء كن فيكون». ومن القصص المنسوبة له ما ذَكره الصيادى فى العديد من كتبه، وفيها: «أن الرفاعى خرج مرّة مع تلاميذه إلى شاطئ الفرات فقام الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان وسأله: يا سيدى: متى يصل المريد إلى مراده ويصير مرادًا ويتصرف فى الأكوان؟
فقال الشيخ: حتى يخرج عن نفسه ومألوفات حسه، ويترك جميع الشهوات المباحات وغيرها، ويصرفه الله تعالى فى كون وجوده وعوالمه.. وإذا صرفه فى الكون المطلق صار أمره بأمر الله تعالى: إذا قال للشىء كن فيكون.
وإذا التفتَ إلى هذا النهر الجارى وقال لأسماكه: أجيبوا طائعين مطبوخين مشويين: يطلعوا بإذن الله ويطيعوه ولا يخالفون أمره. وكان فى المجلس رجُل كبير الشأن يقال له عمر الفاروثى فقال له: يا سيدى هذا الرجُل الذى ذكرتموه لم يكن مخلوقًا؛ بل ربّا ثانيًا!!
فغضب الشيخ أحمد غضبًا شديدًا وقال: تأدب يا عمر. لا أفلح من كَفَر. حاشا وكلّا أن يصل المخلوق إلى مرتبة الربوبية؛ بل لله أسماء وصفات، فإذا تخَلّق العبد بأسماء ربه وصفاته وتحقق بهما فينظر إليه الحق بعين قربه فيصير فِعله من فِعل ربه.
والتفت الشيخ إلى النهر وقال: يا خَلق ائتونى طائعين، واحضروا إلىّ مشويين ليأكل منكم الحاضرون، فما أتم قوله حتى تراكمت عليه الأسماك من البحر ونطقت بلسان عربى فصيح: السلام عليك يا خلاصة خلقه. كلْ من لحمنا لنسعد بك يوم القيامة!.

فأخذ الشيخ من الأسماك وهى مشوية ووضعها بين أيديهم، وأتى لهم من عالم غيب الله تعالى بخبز طرى ساخن رائحته تفوق المسك والعنبر، فأكل الشيخ وأكل القوم أجمعون وما بقى من الأسماك إلا العظام النخرة. ولقد بلغ من حب الأسماك له أنه كان كلما مشى على الشاطئ تخرج الأسماك من بطن البحر لالتماس بركاته وتزدحم على أقدامه، وتسأله بحق الله أن يأكل منها.
ورووا عنه أنه خرج مرّة مع جماعته إلى البر فجاعوا فرأى الشيخ سربًا طائرًا من الأوز (البط) فأمرهم بالنزول حالاً، فنزلت إحداها بين يديه مشوية جاهزة، فأكلها رجُل من رجال الغيب كان معه وما بقى إلا عظامها، فأخذ العظام ومرّر عليها يده وقال: أيتها العظام المتفرقة الأوصال المنقطعة: اذهبى بسم الله الرحمن الرحيم. فذهبت أوزة سوية وطارت فى الجو ثانية!
وذكروا أيضًا أن الرفاعى رأى أسدًا يفترس شابّا وقد «خلع» كتفه من يده ومكث يأكله، فزجره الرفاعى زجرًا شديدًا وقال له: يا خَلق الله أما نهيتكم عن أذية الخَلق الذين يمرون ببلادنا؟ فنطق السبع وأتى إلى حضرة الشيخ مُسَلّمًا عليه بلسان عربى فصيح قائلاً له: يا سيد السادات وصاحب الجود والكرامات: لى سبعة أيام ما أكلت شيئًا، وهذا الشاب أرسله الله لى رزقًا مقسومًا.
فالتفت إليه الشيخ الرفاعى بنظر الغضب والجلال، فوقع السبع ميتًا فى الحال، فأخذ الشيخ ذراع الشاب ووضعها فى مكانها وقال: بسم الله الرحمن الرحيم. ومسح عليه بيده المباركة فعاد كما كان أولًا؛ بل أشد وأقوَى!.

وقيل إن أمير مصر صنع لأحد الرفاعيين ضيافة عظيمة وجعل أمامه طبقًا فيه دجاجة، فنظر إلى الطبق وقال: «سمعت سيدى الشيخ أحمد الرفاعى يقول: الولى المتمكن يُحيى الموتى بإذن الله. ثم نظر إلى الدجاجة وقال لها: قومى بإذن الله. فقامت الدجاجة وشقت المجلس وخرجت.
وكذلك حٌكى أن الشيخ محمد سراج الدين الرفاعى المخزومى قد مَرّ بغلام يذبح شاة فلما رآه والشاة تختبط مذبوحة وقد قرب خروج روحها قال للذابح:
يا واضع السكين بعد ذبيحه فى فيه يسقيه رحيق لهاته
ضعها بجرح الذبح ثانى مرة وأنا الضمين لـه برد حياته
فأعاد الذابح السكين إلى الجرح، فانتفضت الشاة سليمة لا جرح فيها ولا ذبح. خارق الطبيعة
جاء رجُل إلى عثمان بن وروزة البطائحى ومعه ثور ليدعو له بالبركة، فأمر الشيخ السباع واحدًا تلو الآخر أن يأكلوا من ثوره حتى لم يبق من الثور قطعة لحم ثم أعاده الشيخ له سمينًا أكثر مما كان، ولم يتأثر بأكلهم إياه.
ويحكون أنه وقف مرّة على شاطئ النهر وقال لأتباعه: «أعطانى الله التصرف فى الأشياء كلها، ثم قال: سيرى يا سفن وقف يا ماء، فأوقف حركة الماء حتى صار جمادًا ومع ذلك أمر السفن بمتابعة المسير فسارت!. ثم بدّل الطبيعة الكونية مرّة أخرى فأمر الماء أن يسير وأن تتوقف السفن فقال: سر يا ماء وقفى يا سفن. فسار الماء وجمدت السفن.
وأصدر الرفاعى أمرًا إلى شجرة بالمجىء إليه بينها وبينه نهر الفرات، وأقسم عليها بذلك قائلا: «أقسم عليك بالعزيز سبحانه ألا ما أجبت دعوتى وأتيتينى طائعة، فانشقت الأرض، وانفلق البحر، وأتت الشجرة طائعة ناطقة بلسان عربى فصيح تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأشهد أنك شيخ الشيوخ على الإطلاق وشيخ أهل الأرض والسماء».
ومما يروى عن الرفاعى أيضًا أنه: كان يصلى الصبح فى مكة، والظهر فى المدينة، والعصر فى بيت المقدس، والمغرب فى بعلبك، والعشاء فى جبل «قاف».
وهناك قصة مفادها أن الرفاعى قد باع رجُلا قصرًا فى الجنة محدد المساحة لقاء شراء بستان فى الدنيا. ونقل أن الشيخ جمال الدين الخطيب كان من أكابر أصحاب الرفاعى وكان يريد أن يشترى بستانًا لضرورة، فامتنع صاحب البستان عن بيعه إياه، فتشفّع الشيخ جمال الدين إلى الرفاعى، فأتى رد الشفاعة من صاحب البستان (إسماعيل بن عبدالمنعم) الذى قال للرفاعى: يا سيدى إن اشتريته مِنّى بما أريد بعتك إياه.

فقال الشيخ: يا إسماعيل قل لى كم تريد ثمنه حتى أعطيك؟
فقال: يا سيدى تشتريه مِنّى بقصر فى الجنة؟
فقال الرفاعى: مَن أنا حتى تطلب مِنّى هذا يا ولدى؟ اطلب من الدنيا.
فقال: يا سيدى شيئًا من الدنيا ما أريد، فإن أردت البستان فاشتريها بما أطلب.
فنكس أحمد الرفاعى رأسه ساعة، واصْفَرّ لونه وتغيّر، ثم رفع وقد تبدلت الصفرة احمرارًا وقال: يا إسماعيل قد اشتريت منك البستان بما طلبت.
فقال: يا سيدى اكتب لى بخط يدك. فكتب له الرفاعى ورقة فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما اشترى إسماعيل بن عبدالمنعم من العبد الفقير الحقير أحمد بن أبى الحسن الرفاعى، ضامنًا على كرم الله تعالى قصرًا فى الجنة تجمعه حدود أربعة:
الأولى: إلى جنة عدن.
الثانية: إلى جنة المأوى.
الثالثة: إلى جنة الخلد.
الرابعة: إلى جنة الفردوس.
وذلك بجميع حوره وولدانه وفرشه وستره وأنهاره وأشجاره، عوض بستانه فى الدنيا. وله الله شاهد وكفيل.
ثم طوى الكتاب وسلمه إليه، وأوصى صاحب البستان المذكور أن يوضع الصك معه فى كفنه إذا مات، ففعل أبناؤه ذلك، ولما دفنوه وجدوا صبيحة اليوم التالى وقد كتب على قبره «وقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا»!
ومن أعجب ما حُكى عن الرفاعى أنه كان يذوب كالرصاص ويستحيل إلى ماء كلما جلس يتعبد الله تعالى. ثم تدركه الرحمة الإلهية فيجمد شيئًا فشيئًا حتى يعود بدنه إلى ما كان عليه فيقول لأتباعه: «لولا لطف الله ما عدت إليكم».
ويقال إن الرفاعى خرج مع أحد مرافقيه فى الليل فوصلا إلى بستان، فقال له الرفاعى: قف ههنا حتى أرجع. حتى مضى من الليل شطره وهو لم يرجع. فمشى على أثره ليعرف خبره، فإذا بثيابه ملقاة على الأرض وعلى جانبه ماء، فرجع إلى موضعه مرعوبًا من ذلك إذ أقبل عليه وأنواره تشرق، فسأله عن ذلك فقال: يا ولدى أنا كنت ذلك الماء الذى رأيته. نظرنى العزيز سبحانه بعين اللطف فصرت كما ترى. لولا أن نظرنى الله بعين اللطف لما رجعت إليكم أبدًا».
ومما يُحكى أيضًا امتناعه عن الطعام والشراب لأيام وأسابيع وشهورًا؛ بل ربما سنوات. ويقال إن الرفاعى خرج إلى الحج ثم إلى المدينة. ومنذ خروجه من العراق إلى أن عاد إليها من الحج لم يأكل طعامًا قَط، ولم يتناول جرعة ماء واحدة.
أمّا ما يُنسب عن كرامات عبدالقادر الجيلانى؛ فإنه قال: «اشتد علىّ الحَرُّ فى بعض الأسفار يومًا حتى كدت أن أموت عطشًا، فظللتنى سحابة سوداء وهب علىّ منها هواءٌ باردٌ حتى دار ريقى فى فمى، وإذا بصوت ينادينى منها: يا عبدالقادر، أنا ربك!.
فقلت له: أنت الله الذى لا إله إلا هو؟!
قال: فنادانى ثانيًا، فقال: يا عبدالقادر، أنا ربك، وقد أحللتُ لك ما حرمتُ عليك، قال: فقلت له: كذبت يا عدو الله؛ بل أنت شيطان.
قال: فتمزقت تلك السحابة وسمعت من ورائى قائلاً: يا عبدالقادر نجوت مَنّى بفقهك فى دينك، لقد فتنت بهذه الحيلة قبلك سبعين رجلًا.. فقيل للشيخ: كيف عرفت أنه شيطان؟ قال: من حين قال: «أحللت لك» عرفته، لأن بعد الرسول «ص» لا تحليل ولا تحريم.
ومن القصص عن الجيلانى أنه لمّا كان طفلاً صغيرًا خرج ذات يوم ليلعب مع صبيان فى مثل سِنّه، فبينما هو يلعب مرّت به بقرة فنادته يا عبدالقادر ما للعب خلقت.. فترك اللعب وذهب إلى بيت والديه ولم يعد يرى لاهيًا منذ باكر صباه.
وجاء فى مناقبه أنه وهو رضيع كان لا يلتقم ثدى أمه فى رمضان كأنه رجُل بالغ صائم، ومن ذلك أيضًا أن رجُلًا تاهت به الطريق فى الصحراء.. ولما أيقن على الهلاك نادَى بأعلى صوته يا سيدى عبدالقادر الجيلانى إن لم تغثنى من هذه الوحلة لأحاسبنك أمام الله.. فلم يكد يتم كلامه حتى بدت له غزالة وتحرك فيه جوع شديد للطعام، فأخذ يركض وراء الغزالة بكل ما أوتى من قوة.. كى يذبحها ويأكل منها.. فظل يركض ويركض ويركض حتى إذا أيقن أنه لن يمسك بالغزالة توقف لاهثا لينظر من حوله فإذا به يجد نفسه وسط سوق من أسواق المدينة!.