البوسطجية اشتكوا

د. ريهام عرام
«البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلى وعيونى لما بكوا دابت مناديلى»، هكذا غنت الفنانة رجاء عبده فى نهاية أربعينيات القرن الماضى، ولم تكن تعلم حينها أن البوسطجية الذين أشارت لهم فى أغنيتها سيصبحون بعد حوالى عشرة أعوام من غنائها جزءًا من كيان مهم عرف باسم هيئة البريد المصرى على يد الرئيس جمال عبدالناصر، وأن هيئة البريد ستكون إحدى أهم المؤسسات فى الدولة وإحدى الأذرع الرئيسية للتواصل وقتها.
و لما كانت الأغانى الشعبية جزءًا من التراث الثقافى لكل دولة، يؤرخ لأهم أحداثها ويوثق تطورها وعاداتها وتقاليدها ومناسباتها، فإن ذلك يجعلنا نتساءل عن تاريخ نشأة البريد فى مصر، وهل كان البوسطجية يباشرون عملهم قبل إنشاء هيئة البريد؟ إنها «البوستة» أو البريد الذى نقلته أوروبا لنا فى شكله الحديث فى بدايات القرن التاسع عشر وعرف باسم البوستة الخديوية.
البداية كانت مجرد إدارة للبوستة أنشأها الإيطالى المقيم بالإسكندرية كارلو ميراتى حوالى عام 1821 لتصدير واستلام الخطابات المتبادلة مع البلدان الأجنبية، حيث أصبح إنشاؤها من الضروريات فى ظل تحول مدينتى القاهرة والإسكندرية إلى مدن كوزموبوليتانية يقطنها كل جنسيات العالم.
وأطلق عليها ميراتى اسم البوستة الأوروبية وتولى من خلالها نقل الرسائل بين القاهرة والإسكندرية، وعند وفاته تولى ابن أخيه تينو تشيينى إدارة البوستة عام 1843، وكان شريكه جاكومو ميتزى نموذجًا لرجل الأعمال السابق لعصره فبدأ عام 1854 فى استخدام السكة الحديد لتطوير خدماته البريدية وكان أن نشأت على يديه إرهاصات الضريبة أو القيمة التى وضعها للمراسلات على أساس المسافات.
وأصبحت البوستة تستخدم الطوابع المؤرخة لتحدد تاريخ خروجها من المدينة وزمن وصولها، واستمر متزى فى نجاحه حتى حصل على موافقة الحكومة المصرية على احتكار البريد لمدة عشرة أعوام، مقابل نقل الحقائب البريدية والوثائق الحكومية بإعفاء كامل من المصروفات والضرائب.

ولعل من الغريب أن تتولى إدارة أجنبية نقل رسائل الحكومة والأفراد فى مصر، لذا أصبح من الضرورى أن تتبع الحكومة المصرية وكعادته كان الخديو إسماعيل سباقًا فضم البوستة الأوروبية للحكومة المصرية وتم شراؤها مقابل مبلغ ضخم، وأصبحت البوستة مصرية لأول مرة أو «خديوية» كما أطلق عليها عام 1865.
وكان أن أنشئت ثانى بوستة خاصة فى مصر وهى بوستة قناة السويس، وبعد أن كانت شركة قناة السويس تستخدم البوستة الأوروبية، قررت أن تقوم بإدارة بريدها بين السويس وبورسعيد.. وقامت الشركة بطباعة 150 ألف طابع فى باريس من فئات مختلفة.
إلا أن ذلك المشروع لم يكتب له النجاح فى ظل المنافسة مع البوستة المصرية، وتم إلغاء بوستة شركة القناة بعد شهر من إنشائها، حيث لم تنقل أكثر من بضع وعشرين رسالة فى تاريخها القصير جدًا.
ثم تمت طباعة أول إصدارات البوستة المصرية للطوابع فى جنوة الإيطالية عام 1866.. وتوالت الإصدارات من فئات مختلفة بدءًا من الخمس بارات والعشر بارات (والبارة هى واحد على أربعين من القرش) وحتى العشرة قروش، وفى عام 1867 ظهر أبو الهول والأهرامات على الطابع من فئة الخمسة قروش.
وتطورت البوستة وتعددت مكاتبها لتشمل حوالى 16 مكتبًا داخل الأراضى المصرية، وحوالى ثلاثة مكاتب خارجها، ثم افتتحت دول أوروبية مكاتب لها فى مصر، إثر انضمام مصر للاتحاد العام للبريد عام 1875.
بعدها ظهرت اللائحة الخاصة لتنظيم أعمال البريد وجعلت تبعيتها عام 1919 لوزارة المواصلات.. وفى عام 1957 صدور قرار رئيس الجمهورية بإنشاء هيئة البريد المصرية، وتبعه إدخال مكاتب بريد أهلية، وبدأ تفعيل هذه الخدمة المهمة تحت اسم هيئة البريد، وإن كان المصريون لا يزالون يطلقون عليها البوستة حتى الآن.
وما زال مبنى البوستة بميدان العتبة بوسط البلد تحفة معمارية، وتتبع الآن الهيئة القومية للبريد وزارة الاتصالات وهى أحد أذرعها الرئيسية لخدمة المواطنين.

ويظهر مع نشأة البوستة وتطورها تاريخ مصر الحديث، فلا ننسى محاولات القائد الفرنسى نابليون بونابرت وقت الحملة الفرنسية بإنشاء نظام بريدى لنقل المكاتبات عبر نهر النيل بين دلتا مصر وصعيدها، ومحاولات محمد على بعد خروج الفرنسيين من مصر وابتكار عملية نقل المكاتبات والمراسلات عبر وكلاء الشحن إلى أن ذلك كله لم يكتمل نجاحه إلا على يد الإيطالى كارلو ميزاتى ومكتبه «البوستة الأوروبية»، فكانت البوستة فى مصر كغيرها من إنجازات حديثة فكرة فرنسية نفذها إيطاليون واشتراها المصريون.