الحكمة والفن فى منحوتات «ناثان دوس»

أحمد رزق
«وأنت أيها المرء، علم ابنك الكلام المتوارث، فربما كان مثالًا يحذو حذوه أبناء العظماء، وقد يجدون فيه الفهم والعدل لكل من يخاطبه، بما أن الإنسان لم يولد حكيمًا».
من وصية الحكيم المصرى القديم لابنه، التى عظم فيها فضائل السلوك السوى بين الناس كالصدق والعدل.

وعن الفن المصرى القديم وخاصة فن النحت الذى يعد من أهم العلامات التى جعلت الحضارة المصرية القديمة مميزة عن باقى الحضارات فلم تكن التماثيل القديمة عن باقى الحضارات معبرة عن مجرد حدث أو تعظيم لشخص ذى شأن، بل كان الهدف منها أعمق وأبقى أثرًا لنجد فيها عمق فكرة العقيدة فى قلوب ونفوس المصريين وتأثيرها الواضح على الأعمال المنحوتة.
إذن فالفن وسيلة ولغة يسعى- الإنسان الفنان - من خلاله للتعبير عن ذاته ومعتقداته فيقدم كل مهاراته لإنتاج القيمة الحضارية والتى أبدع فيها المصرى القديم بكل ما فيها من خبرة وحيلة.
ويأتى الفنان «ناثان دوس» كحلقة من حلقات وصل الحضارة المصرية القديمة بكل ما تحمله تقاليدها من حكمة ووصايا لترابط الماضى العتيق بالزمن الآنى ليكون معرضه تحت عنوان «شميدت» عنوانًا غير واضح وغير مألوف والذى بحثت عنه ويعنى فى الحضارة القديمة الفهم أو البصيرة وإدراك الحكمة والتى يتصل معناها المعاصر فى المثل العربى: «الحكمة ضالة المؤمن.. من وجدها تمسك بها» وبالفعل تمسك «دوس» بتلابيب الحكمة ليقدم لنا أعمالًا فنية مبهرة فكرًا ومهارة بصنعة نحات يملك أدواته ليضع بها أساسا لوطن الفن والحكمة والتى سبقها بإنتاج أعمال مفادها البحث وتدريب النفس فى مواصلة المعرفة.
فى معرضه المقام بقاعة الزمالك يقدم الفنان 16 عملًا فنيًا يحمل كل عمل منها حكمة استقاها من التاريخ الإنسانى لا سيما - التاريخ المصرى القديم - مصحوبًا بكتابة الحكمة الدالة على العمل وكأنه يحاكى وصايا وحكم حور - حتب والتى لا تحتاج لفك شفراتها ورموزها بل تريد لمن يشاهد العمل أن يقرأها بروحه وبصيرته.. بعض أعمال المعرض يقترب الفنان بمنحوتاته للفن القديم كتمثال «عودة سنوحى» - سنوحى طبيب الملك أمنمحات الأول الذى فر من مصر إلى سوريا بعد غضبه عليه ليخرج للعالم بعلمه ثم يعود فى أواخر حياته لجذوره الأصلية بعد أن يعفو عنه الملك لينشر علمه للأجيال القادمة وهو العمل المحبب للفنان - والذى يدعو فيه إلى العودة للجذور وللقيم الأصيلة وفى عمل الفنان يناجى - سنوحى المصرى - السماء أمام بوابة المعبد ويطلب منحة السماء ليستلهم منها قيم الحق والعدل والمعرفة ودعوة أيضا لكل الغرباء والمغتربين لنشر المعرفة والحكمة فى ربوع وطنهم.

فى منحوتته - الرائعة - «بوى» يقدم ناثان دوس تحية محبة ووفاء لوالده والذى اختار له خامة الجرانيت الصلد وهو الصخر العصىّ على التشكيل إلا لمن أحب - ويبرز منه وجه الأب بثبات وحنو ويقدم أسفله - فأسًا صغيرة - للدلالة على رمز الأب - الحارس - للأرض والداعى للخير والنماء والعطاء، «ناثان دوس» فنان مصرى ولد ونشأ فى قرية بصعيد مصر تابعة لتل العمارنة بمحافظة المنيا بكل ما تحمله المدينة من زخم وتراث مصرى أصيل.
يقول الفنان: «عندما كنت صغيرًا وأطلب شيئًا من أبى أشعر أن يده تطال السماء لكى يعطينى منها النجوم».
تنوعت خامات الأعمال ليمزج الفنان ببراعة بين خامة النحاس المسبوك والجرانيت فى تناغم راق، وأعمال أخرى يمزج الصخر بالبللور الذى يضيفه ليعبر ببساطة عن معنى الشفافية والتى يعلن فيها عن دعوته لتفتح العقل أو عن قطرات الماء والتى تصنع أثرًا فى الصخر.
مجمل أعمال «شميدت» للفنان «ناثان دوس» تدعو بجدية وأصالة للبحث عن أسرار المعرفة والحكمة بحرفة عالية وبصمة فنان متأصل الجذور فى عمق الحضارة والتاريخ.