نادية لطفى كمان.. وكمان!

منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
تلقيت اتصالا تليفونيا مطولا من القاهرة وأنا فى لندن أصابنى بالحيرة..
كان ذلك فى عام 2001 وكنت وقتها قد بدأت أنشر فى «صباح الخير» حديثى الطويل مع سعاد حسنى الذى دام نحو خمس سنوات، خلال إقامتها فى لندن للعلاج من شرخ فى العمود الفقرى.. وبعد واقعة مصرعها المرعبة..
فوجئت بنادية لطفى تحدثنى بعد غيابى عنها لفترة، قالت إنها حصلت على رقم تليفونى من رئيس تحرير «صباح الخير» صديقها رءوف توفيق، وأنها تحيينى على طريقتى فى كتابة سلسلة «سعاد حسنى..أيام وليالى الضباب فى لندن» وكيف استطعت أن أجعل سعاد تعيش بيننا رغم مصرعها...
وفى ختام المكالمة سألتنى عن موعد حضورى لمصر لأنها تريدنى أن أقيم عندها فى شقتها فى جاردن سيتي، لأطول مدة ممكنة!..
لماذا؟.. لأنها ترغب فى أن أسجل قصة حياتها على لسانها وأن أكتبها بطريقتى التى أعجبتها.
وهى تشير إلى أننى أعرفها منذ زمن طويل (43 سنة وقتها) فلا أحد يستطيع رصد حياتها مثلي.
أصابنى هذا الطلب الذى لم أكن أتوقعه بحيرة شديدة لعدة أسباب، أولها أننى لا أريد أن أتحوّل إلى كاتب قصص حياة نجمات السينما.. وتذكرت الفشل الذى أحاط بمحاولاتى كتابة حياة شخصيات مثل الزعيم الجزائرى أحمد بن بيللا وقائد جيش مصر فى حرب الاستنزاف الفريق محمد فوزى ورائد الواقعية فى السينما صلاح أبو سيف، وطبيب جراحات زرع القلب المصرى العالمى الدكتور مجدى يعقوب..
وثانى الأسباب هو إننى حتى لو قبلت هذا العرض، من سيدة أحترمها واعتبرها علامة مهمة فى تاريخ السينما وأيضا فى المواقف الشجاعة المساندة لقضية فلسطين، فكيف سأتمكن من ذلك وهى فى القاهرة وأنا فى لندن؟
.. وطبعا لن أتمكن من ذلك لو أمضيت معها فى بيتها أى مدة ممكنة من الزمن.. فلا أستطيع التفرغ لهذه العملية بينما أعمالى فى لندن تقتضى ألا أغيب أكثر من أسبوعين متواصلين؟!
تحت تأثير رغبتها وتقديرها لي، وإعجابى بشخصيتها القوية وفنها الرائع، وافقت عند زيارتى لها فى صحبة زوجتى التى عقدت معها صداقة خاصة بحكم حبهما للموسيقى الكلاسيكية التى تخصصت فيها زوجتي.

لكن كيف سيتم رصد حياة نادية لطفى بينما أنا فى لندن وهى فى القاهرة.
سجلت معها يومها حديثا طويلا لأكثر من ساعة كتمهيد للمشروع.. ثم اتفقنا أن أضع لها بعض الأسئلة والإشارات، وأترك لها كتابة الردود التى ترصد مراحل حياتها (مع أننى طوال عملى الصحفى أرفض هذا الأسلوب..وأفضّل الحديث المباشر ولا أكتب أسئلة وأطلب الرد عليها) ووعدتها عند عودتى للندن أن أضع مخططا كاملا لمشروع كتابة قصة حياتها وأبعث به إليها.. وهو ما جعلنى أذاكر قصة حياتها وأعمالها ومواقفها.. واستغرق ذلك منى بعض الوقت لكن عندما أرسلت المخطط على عنوانها فى جاردن سيتى، لم يصلنى منها رد.
قلت إنها ربما تراجعت عن الفكرة بسبب صعوبة وجودى فى لندن.. لكن بعد فترة علمت أنها دخلت المستشفى.
وعندما تيسر لى الاطمئنان عليها، وعلمت بعودتها لبيتها اتصلت بها (كانت خدمة التليفون فى لندن قد تطورت وقتها فأصبحت أتصل بها من بيتي) فوجدتها لا تعلم بأمر المخطط الذى أرسلته لها، فقد ضاع خلال غيابها فى المستشفى، فاقترحت عليها أن أمليها «مفاتيح كلام» تتناول كل مرحلة من حياتها على أن تقوم هى بتسجيل أحاديث على أشرطة «كاسيت» تروى فى كل منها عن مرحلة.. وهكذا.
فرحت بهذه الفكرة لأنها تحرّك المشروع وتجهّز لى مادة تصلح لسلسلة صحفية عن حياتها ننشرها فى «صباح الخير»، وخاصة أنها قد اعتزلت العمل الفنى منذ 1993 تقريبا.. بينما نحن فى سنة 2005 تقريبا..
وتركت لها فترة كافية من الزمن ثم عاودت الاتصال.. فإذا بها تحكى لى بطريقة ساخرة ما حدث معها خلال تسجيل هذه الأحاديث على شرائط «الكاسيت».
فبعد أن أمضت أوقاتا طويلة فى الانفراد بنفسها وتسجيل الأحاديث، وسجلت مجموعة منها، وجدت الوصيفة التى تعمل معها فى البيت وتقوم برعايتها تنظر إليها كما لو كانت مجنونة تتكلّم مع نفسها لساعات!
وهذا ما جعلها تتوقف فورا عن تسجيلات «الكاسيت».
عندما زرتها بعد ذلك حكت لى كيف كانت منزعجة من نظرة شغالتها.. وخافت أن يشيع عنها أنها أصيبت فى عقلها بعد المرض الذى أصابها.
مضت فترة كنت أحاول فيها البحث عن طريقة ناجحة لتحقيق رغبة هذه الصديقة العظيمة.. قلت لها ما رأيك فى أن أبعث لك بالأسئلة عبر «الفاكس» وأتلقى ردك عليها وهكذا؟!

قالت إنها لا تملك جهاز «فاكس» وان لديها عقدة من هذا النوع من الأجهزة وذكّرتنى بأن طلاقها من زوجها الثانى إبراهيم صادق، شقيق حاتم صادق زوج هدى جمال عبد الناصر، كان بسبب اكتشافها لأجهزة تنصت زرعها فى البيت دون علمها. كما أنها لا تحب الجلوس لساعات طويلة تمضيها فى الكتابة.
إذن.. فلا سبيل إلى إنجاز مشروعنا هذا..
مضت سنوات قبل أن يحدث تطور خطير فى عالم الاتصالات، فقد تم ابتكار خدمة جديدة تيسر للناس التحادث بالصوت والصورة باستخدام شاشات الكومبيوتر هي» زووم»،جرّبتها بنفسى عند بدء ظهورها فقد كنت فى زيارة لبيروت وتمكنت من خلالها من الاتصال بشخص لديه جهاز كومبيوتر يتمتع بهذه الخاصية المبتكرة.
فى زيارتى التالية للقاهرة حدثتها عن هذا الابتكار الذى سيتيح لنا أن نتحدث وجها لوجه رغم بعد المسافة بين القاهرة ولندن.
أعجبتها فكرة هذا الاختراع العظيم وقالت إنها ستشترى كومبيوتر وتتصل بمن يحقق لها توصيل خدمة «زووم» على الكومبيوتر فى بيتها..
لم يحدث ذلك.. لا أعرف لماذا.
فتلاشى حماسى لمشروع مذكرات نادية لطفى التى كان من المقرر نشرها فى «صباح الخير».
ومع ذلك كنت على اتصال بها وخلال حديثى اكتشفت أن الموسيقار كامل الرمالى مؤلف أول أوبرا مصرية هو والد زوجتي، فطلبت التعرّف عليه وتواصلت معه تليفونيا لدعوته فهى من عشاق فنون الأوبرا والباليه والموسيقى الكلاسيك.. وفى الزيارة شعرت بتقارب كبير بينهما.. وتوالت دعواتها له بعد ما عدت إلى لندن، وأبدى هو إعجابه بشخصيتها وثقافتها وجمالها طبعا.. وفى السنوات الأخيرة كنت أزورها فى البيت، ثم وجدت أنها انتقلت للإقامة الدائمة فى مستشفى المعادى لتكون تحت الرعاية يوميا بسبب مخاطر صحية أصابتها بأزمة رئوية حادة، فكنا زوجتى وأنا، نزورها فى المستشفى ونمضى معها أوقاتا طويلة.. وقد أطلعتنا بفخر على «وسام القدس» الذى جاء الرئيس الفلسطينى للقاهرة ليسلمها إياه فى المستشفى، اعترافا بدورها فى مساندة قضية الشعب الفلسطيني.
ولا أعرف لماذا وجدتها تقدّم لى صورة شخصية لها كتبت خلفها عبارات حب وتقدير..
وأمضينا معها عدة أيام قبل موعد عودتنا للندن وفى اليوم السابق لرحيلها ذهبنا كالمعتاد إلى المستشفى ودخلنا المكان المخصص لها بقرار من الرئيس السيسي، فلم نجدها، قالت لنا طبيبة من المشرفين على حالتها أنها فى غرفة العناية المركزة، وإنه غير مسموح لأحد بالدخول.. وفى الصباح الباكر من يوم عودتنا للندن 5 فبراير2020 أخبرنا سائقها الخاص الذى كان يوصلنا للمطار وهو يبكى:
نادية لطفى عند ربنا!
والأسبوع المقبل نواصل