«بوح النساء»

قراءة: د. هانى حجاج
كتبت الفنانة الاستعراضية الأمريكية التى قضت معظم حياتها فى روسيا «السوفيتية»، إيزادورا دانكان فى يومياتها: «كلما مضيت قُدماً فى هذه المذكرات أكثر فأكثر أجد استحالة كتابة حياة المرء أو بالأحرى حيوات كل الناس المختلفين الذين كنتهم، والأحداث التى بدت لى كأنها استمرت طوال العمر».
لقد أخذت فقط عدة صفحات فى مذكراتها تصف الفترات التى مرت كالدهور من الألم والعذاب وعاشت خلالها فى حالة دفاع مطلق ومستمر عن النفس، ومن أجل الاستمرار فى هذه الحياة، فخرجت منها شخصاً آخر مختلفاً تمام الاختلاف ولا يظهر هذا الشخص أبداً فى تلك المذكرات. تسأل نفسها فى قنوط: ما الذى سيكون القارئ قادراً على أن يكسوه لحماً وعظاماً يراه حياً، مما قدمت؟ أنا أحاول أن أدوّن الحقيقة لكنها تذهب بعيداً وتختفى منى! «كيف أجد الحقيقة؟ لو كنت كاتبة وكتبت عن حياتى عشرين رواية أو شيئاً من هذا لكانت أقرب إلى الحقيقة. ثم بعدها، بعد أن أكون كتبت تلك الروايات، لا بد لى أن أكتب رواية الفنانة، التى لا بد أن تكون بعيدة كل البعد عن كل الروايات الأخرى. ذلك أن حياتى كفنانة مثل كائن منفصل، مستقل تمام الاستقلال عما أسميه إرادتى كما يبدو!».

سيرتها الذاتية بعنوان (حياتى) my life وهى فى الواقع الجزء الأول والوحيد من مذكراتها، إذ شاء القدر أن يباغتها بالموت قبل أن تقص علينا ما جرى لها فى روسيا، وهى تعترف فى مقدمة المذكرات بعجزها- وعجز أى إنسان، امرأة أو رجل- عن كتابة الحقيقة فى حياته، ربما لم يفعل ذلك بمنتهى الجرأة سوى (جان جاك روسو)، أما بوح النساء بصفة خاصة فتنتظره مقدماً عاصفة من فنون التأويل. إيزادورا ولدت فى بيت على البحر، وكل شىء حدث فى حياتها كان بالقرب من البحر، حتى غرق طفليها، وحتى موتها نفسه.
بدأت الرقص فى الخامسة عشرة من عمرها، دون موسيقى، ولم يكن كأى رقص، هو مزيج من الحركات التعبيرية والرسم بالأطراف فى بؤرة الضوء والفرار من عتمة الأطراف. كانت متمردة وشجاعة لا تحب الخرافات والتقاليد، وعندما كانت زميلاتها فى المدرسة يسعدن بهدايا بابا نويل وقفت أمام مدرستها متحدية أنه لا وجود لهذا العجوز الوهمى! وبالطبع كان عقابها الطرد والإذلال.
لم تكن تعبأ بالعقاب أمام قول ما تراه الحق. لا يوجد بابا نويل ينعم على أبناء الفقراء بهدايا الكريسماس، بل هناك أغنياء يبتاعون لأبنائهم كل شىء، وهنا شحاذون يأكلون من القمامة. تشعر بالموسيقى فى روحها حتى دون عزف مسموع، تجد العزف على البيانو دائماً مضطربا وعصبيا وبلا روح مع بعض المفاجآت أحياناً والتوقعات بأن مصيبة مثيرة ستحدث، من المفهوم لماذا كانت ترى مدرسة الموسيقى فاشلة، فقد كانت لها نظرة مثالية تجاه الأشياء.
ينطبق عليها وصف شخصية بطلة قصة أليس مونرو (رقصة الظلال السعيدة): «خلفى أثناء عزفى كان هناك ضجة وحركة، أولاد يحاولون أن يجدوا مكاناً لهم وبعض الضحكات الخافتة، يسود الحجرة حالة من الترقب ومن الصمت الثقيل، شىء ما يحدث، شىء غير متوقع، شىء قد يكون مأساويا، وأستمر فى العزف كى أملأ الصمت المهيمن بموسيقاى التى تحاول جاهدة أن تكون مقطوعة لهاندل»، وهكذا حررت شكل الرقص من قوالبه المحفوظة وأنشأت فرقة خاصة فى اليونان ثم أدهشت الجمهور فى ألمانيا برقصها العجيب على موسيقى فاجنر الذى صارت صديقة لأرملته هناك. أصابت أسرتها لعنة وكآبة وانتحر شقيقها وسخرت من فكرة الزواج فى المجتمع المعاصر. وعندها يسألونها: (هل يعتبر الحب أسمى من الفن؟) تجيب: «لا أستطيع الفصل بينهما؛ لأن الفنان هو المحب الوحيد فهو وحده الذى يملك الرؤية النقدية النقية الصافية للجمال، والحب هو رؤية الروح عندما يُسمح لها بالتحديق فى الجمال الخالد»، وكانت مغرمة بارتداء الأوشحة الطويلة الهفهافة كفراشة تحوم حول النور الملتهب، ومن سخرية القدر أن يلتف وشاحها الطويل حول عجلة سيارتها فى فرنسا فيشنقها وتموت فى لمح البصر.