الجمعة 14 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
قصة شكرى مصطفى

تاريـخ الخيانـة الحلقة الثالثة

قصة شكرى مصطفى

 «المهدى المنتظر» الذى أفرج عنه الرئيس السادات فخرج ليُكفر المجتمع!

 



عند وفاة الزعيم جمال عبدالناصر كانت السجون تضم 118 من أبناء التيار الإسلامى منهم، 80 من الإخوان المسلمين فى مقدمتهم عمر التلمسانى، ومحمد قطب، ومصطفى مشهور، و38 من جماعات التكفير المنشقة ظاهريا عن الإخوان أبرزهم على عبده إسماعيل، وشكرى مصطفى.. والذى قابلته سلسلة من المفاجآت والصدف أبرزها أن أول من اكتشف تنظيمه فى صحراء الصعيد مخبر سرى مر بالصدفة بالقرب من عمليات التدريب على السلاح.. وآخر من قبض عليه وقدمه لحبل المشنقة مخبر سرى آخر رآه بالصدفة فى منطقة المرج بالقاهرة وهو يحاول الهروب من البوليس.

الرئيس السادات طلب ملفات المتشددين وقرر الإفراج عنهم فى صفقة سياسية بدون مقابل ومن طرف واحد، رغم تحذير جميع الأجهزة الأمنية من خطورة هؤلاء، كانوا جميعًا مصنفين «خطر جدًا».

 

 

 

لم يستجب السادات وفتح القمقم مرة واحدة، فخرجت الصقور الجائعة دفعة واحدة وانتشرت فى ربوع مصر... واتجه شكرى مصطفى إلى أسيوط وبقى الآخرون فى قلب القاهرة، وبدأت خطة الانتشار والتسلل والاختراق فى القلب والأطراف.

ولم يكن من الممكن لشكرى مصطفى المفرج عنه بعفو رئاسى أن يمارس نشاطه بيسر إلا فى إطار لعبة السادات، التى كان أول من دفع ثمنها، ففى إطار انقلابه على ميراث سلفه جمال عبدالناصر، عمد إلى التحالف مع التيار الإسلامى من أجل ضرب التيار القومى الناصرى، وتحجيمه.

قبل القرار الخطير بعدة سنوات كان شكرى مصطفى قد تم القبض عليه فى سنة 1965 ضمن تنظيم الإخوان الجديد الذى يقوده سيد قطب، وقتها كان شابًا صغيرًا كان لا يزال فى السنة الثالثة فى كلية الزراعة ومن الشباب الذين جذبتهم نشاطات الإخوان السرية الذين انضموا لحلقات تنظيم 65..  وسنلاحظ فيما بعد أن الإخوان كانوا من أشد المروجين والناشرين لأفكار شكرى مصطفى الذى كان ضحية لفكر التكفير وليس منشئا له، وبالتأكيد فإن محاولة الإخوان تضخيم دور شكرى مصطفى كان الهدف الرئيسى منها تغطية على الدور السلبى التكفيرى لأفكار سيد قطب، الذى بدل معالجة أخطائه بتنقيح كتبه وإزالة المواضع المبهمة فيها على الأقل، بقى الإصرار على طبعها كما هى برغم ما تولد عن ذلك من نتائج سلبية عبر السنوات الطويلة!

 

 

 

وقت القبض على شكرى مصطفى لأول مرة كانت ظروفه الأسرية شديدة الصعوبة فقد طلقت أمه، وتزوج أبوه امرأة أخرى وتزوجت أمه رجلا آخر، وهو لا يدرى أين يذهب، وكان كثيرا ما يتندر بهذه الحالة فى السجن ويقول ضاحكا: «هذا الاعتقال حلّ لى الكثير من المشكلات».

شكرى مصطفى خرج من السجن عام 1971، لا تشغله إلا فكرة واحدة هى تطبيق ما آمن به.. تكفير الحاكم والمجتمع.. فهذا هو ما تعلمه من سيد قطب وقيادات الإخوان داخل السجون...كانت هذه هى البداية الفعلية لتنظيم «التكفير والهجرة» والذى خطط لإقامة الدولة الإسلامية، بعد أن تخرج جيوشه من منطقة الشعاب اوالجبال لتطهر العالم من الفساد والكفر.

 انتشر التنظيم فى عدة محافظات أبرزها المنيا وأسيوط، وتدربوا على الأعمال العسكرية فى منطقة جبلية بالبر الغربى لمحافظة المنيا، وتم كشفهم بالصدفة البحتة عن طريق أحد الخفراء السريين عندما حاولوا قتله أثناء مروره مصادفة فى المنطقة، كان ذلك فى العام 1974.. أحد الخفراء يمشى مصادفة فى ناحية البر الغربى من مدينة المنيا، وشاهد مجموعة من الشباب يتدربون على بعض الألعاب الرياضية ويتخذون من المنطقة الجبلية هناك مقرًا لإقامتهم، وما إن شاهدوه حتى أطلقوا عليه بعض الأعيرة النارية، الأمر الذى حدا به إلى الإسراع بالهروب وقام بإبلاغ الشرطة بما حدث، وتمت مداهمة الموقع وضبط الموجودين وما فيه ومعهم بعض الأسلحة، وأغلبها كان من السلاح الأبيض وتم ضبط المجموعة بالكامل.

 

 

 

وكان هذا هو أول تنظيم لجماعة التكفير والهجرة وقدموا للمحاكمة فى القضية رقم 618 لسنة 73 أمن دولة عليا، ولكن لم تكن الأدلة قوية لإدانتهم وكانت الأحكام الصادرة مخففة جدًا»...فقد تشكلت مجموعات للتحقيق مع من تم ضبطهم تحت إشراف العقيد نديم حمدى والذى كان من أكفأ ضباط مباحث أمن الدولة فى هذه المرحلة، وكشفت التحقيقات أبعاد التنظيم بالكامل ومخططاتهم وأهدافهم، ولم تكن الأدلة كافية لإدانتهم بتهمة محاولة تغيير نظام الحكم بالقوة، لذلك فقد رؤى الاكتفاء بتقديم عدد منهم للاتهام وحكم عليهم بأحكام تراوحت بين السنة والثلاث سنوات.

بعدها تصدت وزارة الأوقاف برئاسة الشيخ الدكتور محمد حسين الذهبى لأفكار الجماعة بناء على توصية من القضاء والأمن الذى رأى أن هذه الأفكار لابد من مواجهتها بالأفكار وبيان ضلالها حتى لا ينخدع بها الناس.

أصدرت وزارة الأوقاف كتابا فى 68 صفحة، يضم كتابات لـ19 من رموز الدعوة الذين تصدوا لهذه الأفكار التكفيرية، وكتب الشيخ الذهبى بنفسه مقدمة الكتيب، الذى حمل عنوان «قبسات من هدى الإسلام»، وقد نشر عام 1975.

 

 

 

وقال الذهبى فى التقديم: «يبدو أن فريقًا من المتطرفين الذين يسعون فى الأرض فسادًا، ولا يريدون لمصر استقرارًا، قد استغلوا فى هذا الشباب حماس الدين، فآتوهم من هذا الجانب، وصوروا لهم المجتمع الذى يعيشون فيه بأنه مجتمع كافر، تجب مقاومته ولا تجوز معايشته، فلجأ منهم من لجأ إلى الثورة والعنف، واعتزل منهم من اعتزل جماعة المسلمين، وأووا إلى المغارات والكهوف، ورفض هؤلاء وأولئك المجتمع الذى ينتمون إليه، لأنه فى نظرهم مجتمع كافر يجب مقاومته».

ورغم محاولة الشيخ الذهبى التزام الهدوء واستخدام لهجة تلتزم أدبيات الحوار الإسلامى، فإن جنون العظمة واللوثة العقلية التى ضربت عقل شكرى مصطفى جعلته يعلن حربًا لا هوادة فيها على الشيخ الجليل، ولا يكتفى بأقل من رأسه ثمنا لتجرؤه على توجيه سهام النقد لتنظيم مصطفى وجماعته، لذلك أصدر النائب الأول لشكرى مصطفى، ابن شقيقته ماهر عبدالعزيز، الأوامر باختطاف الذهبى.

وفى فجر 4 يوليو 1977- ذهبت مجموعة من الشباب فى سيارتين «مازدا وفيات» بقيادة ضابط مفصول اسمه أحمد عبدالعليم إلى منزل الشيخ الذهبى بحلوان، وادعوا أنهم من مباحث أمن الدولة، وقاموا باصطحاب الشيخ الذهبى «رحمه الله» فى إحدى السيارتين بزعم أنه مطلوب التحقيق معه، وتعطلت السيارة الأخرى ووقف السائق يبدل إطار لها.. طريقة التنفيذ أثارت شكوك أسرة الوزير السابق، مما جعلهم يستغيثون بالأهالى، وتمكن المختطفون من وضعه فى سيارة والإسراع بها، وتمكن الأهالى من القبض على قائد السيارة الثانية وسلموه لرجال مباحث أمن الدولة عند وصولهم إلى مكان الحادث. 

 

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر

 

تم تشكيل مجموعة عمل من عشرين ضابطًا، لسرعة الوصول إلى مكان احتجاز الشيخ الذهبى وكشف غموض الحادث وتصفية التنظيم الذى أعد لهذه العملية».. فيما أعلن المختطفون مطالبهم عبر وكالات الأنباء العالمية والتى تنحصر فى الإفراج عن جميع المضبوطين من أعضاء الجماعة، مع دفع مبلغ مئة وخمسين ألف جنيه للجماعة، تعويضًا عما أصابها من أضرار بسبب الإجراءات الأمنية السابق اتخاذها حيالهم، مع اعتبار القضايا السابق اتهام أعضائها بها كأن لم تكن.. ونشر كتاب شكرى مصطفى على حلقات فى الصحف... ووقتها أبدى عثمان أحمد عثمان استعداده لدفع المبلغ..فيما أصدرت الشرطة بيانا قالت فيه إن المطلوب الإفراج عنهم تحت سلطة القضاء والتحقيقات وأنها لاتملك الإفراج عنهم.

كان أول قرار لمجموعة العمل التى تبحث عن الشيخ الذهبى هو تفتيش الشقق المفروشة على مستوى الجمهورية، والتركيز على منطقة القاهرة الكبرى، خصوصًا المناطق النائية، مع وضع المراقبات الدقيقة على سيدات الجماعة حيث كان قد ظهر اعتماد الجماعة على قيامهن بعملية الاتصالات بين أعضاء تنظيم «التكفير والهجرة»، فضلا عن استدعاء طلال الأنصارى الذى كان محكومًا عليه فى سجن طرة فى قضية «الفنية العسكرية»، لأنه كان من قيادات جماعة «التكفير والهجرة» فى فترة سابقة، ويعلم الكثير عن أعضائها ومقار أوكارهم، وقد أدلى للأجهزة الأمنية بمعلومات مهمة فى هذا المجال، ما أسفر عن سقوط العديد من عناصر التنظيم فى قبضة الأمن. 

وتوصلت الأجهزة إلى معلومة أن شقيق صفوت الزينى الصغير والذى لم يكن يتعدى العشر سنوات فى هذا الوقت، هو حلقة الاتصال بين شكرى مصطفى وباقى أعضاء الجماعة فوضعت خطة لمراقبته بدقة شديدة طوال 24 ساعة، وأسفرت مراقبته عن تردده على بعض المواقع أحدهما بشارع الملك فيصل، بجوار المسجد الذى كان يخطب فيه الشيخ عبدالحميد كشك، وعند مداهمته وجد ما يدل على وجود شكرى مصطفى فى المقر قبل اقتحامه بيوم، حيث عثر على عدد من صحيفة الأهرام، وعلى خطاب أعده شكرى مصطفى ليرسله لبعض عناصر التنظيم بتعليمات تخص تحركهم المطلوب الإعداد له. 

وتمكنت قوات الأمن من ضبط أحد عناصر التنظيم بناحية الهرم، وأثناء ضبطه حاول ابتلاع ورقة تمكن الضابط من استخراجها من فمه بالقوة، وتبين أنه مكتوب عليها الآتى: إلى أبومصعب عليكم نقل الخضار فى عربة يد، بعد أن تضعوا فيه كمية وافرة من النشادر، وأن تتوجهوا به إلى ترعة المريوطية وتلقوه بها، التوقيع أبوسعد.

وبعد أربع ساعات من التحقيقات مع بعض المقبوض عليهم اعترفوا بوجود الشيخ الذهبى فى شقة بأحد الشوارع الجانبية بشارع الهرم، على الفور قامت قوات الشرطة بمداهمة المكان، وعثرت على جثة الشيخ الذهبى ملقاة على أحد الأسرة مصابًا بطلق نارى فى عينه اليسرى، أصابت المخ وتسببت فى الوفاة مباشرة فى الساعة 10 من مساء 5 يوليو 1977.

وأن من تولى تنفيذ أمر الإعدام الذى أصدره شكرى مصطفى هو ضابط شرطة سابق يدعى أحمد طارق عبدالعليم، وكان شكرى مصطفى يفتى بأن العين اليسرى هى العين التى ينظر منها الشيطان، وكأنه قتل الذهبى من عين الشيطان.

شكرى مصطفى، وقتها بدأ رحلة اختفاء عن الأنظار، ويسرد لنا ملف القضية الخاصة بتنظيم التكفير والهجرة، اللحظات السابقة على إلقاء القبض على شكرى مصطفى فى منطقة عزبة النخل، وتقول السجلات:«فى ظهر يوم 8 يوليو 1977، كان مخبر سرى اسمه عبدالمحسن عطا من إدارة البحث الجنائى بمديرية أمن القاهرة، وهو من أهالى المنطقة نفسها، يجلس بمحل ترزى مجاور لهذا المنزل، وحوالى الساعة الواحدة ظهرًا شاهد رجلًا وامرأة، المرأة منتقبة والرجل ملثم، والمرأة تحمل طفلا على كتفها، والرجل يحمل حقيبتين كبيرتين، وعندما اقتربا من المنزل رقم 18 ظهرت إحدى المنتقبات من الشباك وأشارت إليهما بالابتعاد، ولكن المخبر والترزى لحقا بهما.

وجرى الحوار التالى وفق ما هو مثبت فى محضر التحقيقات: المخبر: أنت مين؟ ومخبى وشك ليه؟ الملثم: أنا زين، عاوزين إيه؟ المخبر: عايزين بطاقتك. الملثم: انتم مين؟ وفين بطاقاتكم؟ المخبر: إحنا مباحث، فين بطاقتك؟ الملثم: أنا معرفش أى حاجة ولا أعترف بالبطاقات! لو سمحتم، لا يجوز أن تكون هناك عورة بيننا، الست حتدخل وأنا هأرجع لكم. دخل الملثم مع المرأة المنتقبة ثم عاد وحده، وبعد قليل عاد وقام المخبر بتفتيشه فعثر معه على 24 جنيهًا، وتذكرة قطار قادم من بنها، ثم قال الملثم: انتو عايزين منى ايه أنا ماعنديش بطاقة؟ المخبر: اسمك أيه؟ الملثم: اسمى زين. المخبر: أنت من جماعة «التكفير والهجرة» اللى قتلت الشيخ الذهبى؟ الملثم: الجماعة مقتلتش حد. المخبر متسائلًا: أنت من الجماعة؟ الملثم منفعلًا: أنا شكرى مصطفى، عايزين إيه؟ عايزين إيه؟ عايزين إيه؟ ساد الصمت لحظات، فالمخبر أدرك أنه وقع على الصيد الثمين، الرجل الذى يشغل بال المصريين جميعا، وتبحث عنه الداخلية من أكبر قيادة فيها إلى أصغر مخبر، كان وحده بلا سلاح أمام الرجل الذى يدعى أنه خليفة المسلمين القادم، أمير تنظيم التكفير والهجرة، سقط فى يد المخبر، لذلك حاول تمالك نفسه وقال فى هدوء: «مش عايزين حاجة اتفضل ادخل نام». طلب المخبر من الترزى التوجه إلى أقرب تليفون للإبلاغ عن مكان وجود شكرى مصطفى، فيما ظل المخبر أمام المنزل خشية هرب أمير التكفيريين، وجاءت القوة التى اقتحمت الشقة، حيث تم ضبطه واصطحابه إلى قسم الزيتون، وإخطار القيادات الأمنية التى حضرت على الفور بقيادة اللواء نبوى إسماعيل واللواء حسن أبوباشا، حيث قاموا بمحاولة سريعة لاستجواب شكرى مصطفى والذى واجههم ثابتا ورافعا صوته قائلا «أنه سيرث الأرض وما عليها، وأن لا أحد من الناس يمكنه أن يمسه بسوء، لأنه محفوظ بالعناية الإلهية، وصور فى حديثه أنه المهدى المنتظر الذى سيحرر العالم الإسلامى من العبودية وسيعيد للإسلام مجده، وسيقيم الخلافة مرة أخرى».