السبت 15 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الحلقة 31

نادية لطفى ليست نادية لطفى!

بولا محمد مصطفى
بولا محمد مصطفى

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

مع ياسر عرفات
مع ياسر عرفات

 

كثير من الناس يعرفون الفنانة الرائعة نادية لطفي، شاهدوا لها أفلاما أو مسرحية وحيدة أو مسلسلاً أو أحاديث تليفزيونية أو صحفية، لكن قليلين جدا هم الذين يعرفون أن نادية لطفي ليست نادية لطفي، أقصد أن هذا الاسم الفني الذى اشتهرت به وحققت نجاحات عديدة ليس اسمها الحقيقى.

وعندما تعرّفت عليها وكان ذلك فى 1967 بعد الهزيمة المريرة التى لحقت بنا، كانت بدافع الوطنية والمشاركة الفعالة فى حياة المجتمع والتضحية بالوقت والراحة والمال، قد شكلت وهى فى الثلاثين من عمرها لجنة تطوعية لرعاية ضحايا الحرب، تقدم لهم ولأسرهم المساعدات المختلفة وتزور الجبهة فى صحبة كبار الكتاب والنجوم لرفع معنوياتهم كما تزور الجرحى فى المستشفيات للتخفيف من معاناتهم وتكتب الرسائل لذويهم فى الأقاليم والأرياف..

 وقد شاركت فى هذه اللجنة وكنت وقتها محررا تحت التمرين فى «صباح الخير» وطالبا فى السنة الثانية فى قسم هندسة الديكور فى كلية الفنون الجميلة.. وكنت أصغر الأعضاء الستة عشر. 

 

شاركت فى لجنة تطوعية لرعاية ضحايا الحرب
شاركت فى لجنة تطوعية لرعاية ضحايا الحرب

 

وطبعا كنت قد شاهدت لها أكثر من فيلم، وأعجبتني..ليس فقط لأنها شقراء جميلة، لكن لأنها تنجح فى تقمص الشخصيات التى تؤديها.. ومع أنها ليست بنت بلد، فهى من بنات الطبقة المتوسطة العليا، إلا أنها قدّمت شخصية بنت البلد بل الراقصة بتميز.

ولا أنسى أن أول أدوارها سنة 1958 كان دور صحفية، فى فيلم «سلطان».

وزاد إعجابى بها عندما قدّمنى لها العم عدلى فهيم ليس كنجمة سينمائية أولى فقط ولكن كمصرية وطنية تعمل فى الخدمة العامة فى زمن الحرب والهزيمة. تساهم فى تجاوز مشاعر الهزيمة..

رحبت بى وبحماسى لهذا العمل الإنسانى الوطنى خصوصا عندما علمت أننى نشأت فى السويس وشاركت هناك فى المقاومة الشعبية للعدوان الثلاثى سنة 1956 ،كما تعلّمت حمل السلاح مع أننى كنت فى الحادية عشرة من عمرى وشاركت فى توزيع منشورات المقاومة الشعبية وكنت أقرؤها للناس فى تجمعاتهم وبيوتهم (بالمناسبة، اكتشفت بعد ذلك بوقت طويل أن هذه المنشورات كان من يرسم لوحاتها المشجعة على مقاومة العدوان الثلاثى هو عم حسن فؤاد).

وعلمت أنها بدأت نشاطها التطوعى خلال العدوان الثلاثى سنة 1956 وعملت كممرضة فى مستشفى قصر العينى وكانت وقتها فى عمر 19 سنة، أى قبل اكتشافها كنجمة سينمائية بسنتين.. 

 

نادية لطفى.. تقمص الشخصيات
نادية لطفى.. تقمص الشخصيات

 

المهم أن زياراتنا للضباط والجنود ضحايا الحرب من المصابين بأعراض بعضها مهول، والاستماع إلى حكاياتهم وما جرى لهم قبل وأثناء وبعد الحرب، كشفت لنا عن فظائع كانت وراء الهزيمة.. وكانت الهزيمة محتمة بسبب فشل القيادة.. كما اعترف بذلك بشجاعة الزعيم جمال عبدالناصر.

اسمها الحقيقى بولا!

  نعود إلى حكاية نادية لطفى واسمها.. فقد عرفت بعد فترة من الزمن ومنها شخصيا بحكم المودة والصداقة التى نشأت بيننا، أنها ليست نادية لطفي! 

فقد وجدت بعض المحيطين بها ينادونها باسم «بولا»... وفى البداية ظننت أنه اسم التدليل أو شيء من هذا.. لكنها شرحت لى الحكاية فهى فعلا بولا محمد مصطفى شفيق، ووالدها صعيدى من قنا، من الطبقة المتوسطة الغنية أو قل الميسورة، وحكت لى أنها لم تفكر أبدا فى طفولتها ومراهقتها فى أن تكون نجمة سينما، على الرغم من الجمال الذى تتمتع به، فكيف أصبحت نجمة سينما وبطلة لأول أفلامها «سلطان»؟

هذه قصة طريفة فقد التقت مصادفة المنتج السينمائى رمسيس نجيب وكانت فى زيارة لبيت صديقة لها هى شقيقة يوسف شاهين وذلك فى صحبة والدها صديق جان خورى صاحب شركة إنتاج سينمائى وكان حاضرا رمسيس نجيب شريكه فى هذه الشركة.. ومع أن جان خورى كان يرى أنها أجمل من نجمات الأفلام الأمريكية التى يعرضها خلال السهرة إلا أن رمسيس نجيب هو الذى عرض عليها فجأة أن تشارك فى بطولة فيلمه الجديد «سلطان».. ومع دهشتها ودهشة والديها ورفضهما الفكرة قالت هى أنها فكرة جميلة وعلينا أن نجرب حظنا.. ليه لأ؟!ّ

 

مع العندليب
مع العندليب

 

استطاع رمسيس نجيب التأثير على والدها بإقناعه بأن ابنته سيكون لها مستقبل كبير ولا يصح أن يقف فى طريقها.

انتقل الاهتمام بعد ذلك إلى اختيار اسم فنى للنجمة الجديدة فلم يكن اسمها الحقيقى «بولا شفيق» مناسبًا، لغرابته واقترح رمسيس نجيب اسما آخر هو سميحة حمدى.. لكنه لم يعجبها، وقالت إنها شاهدت فيلم «لا أنام» لفاتن حمامة فى دور «نادية لطفى».. وهذا اسم جميل!

رحب رمسيس بالفكرة بل إنه بعقلية المنتج تحمس لها قائلا إن هذا الاختيار لاسم بطلة رواية إحسان عبد القدوس سوف يثير ضجة.. وإن إحسان سوف يرفع دعوى قضائية ضدنا مطالبا بحقوق الملكية  الفكرية لأنه صاحب اسم بطلة روايته الشهيرة وهذا سوف يحقق لنا دعاية كبيرة للنجمة الجديدة وللفيلم.

وهو ما انتشر وقتها فى الصحف حيث سرّب المنتج خبرا عن القضية، لكن فى الحقيقة لم تكن هناك قضية بل إن إحسان رحّب بالنجمة الجديدة التى اختاروا لها اسم بطلة رواية من تأليفه وفوق ذلك صمم على الحضور بنفسه ومعه فاتن حمامة فى حفل أول عرض لفيلم «سلطان» وبعد العرض حيتها سيدة الشاشة فاتن حمامة ورحبت بها كزميلة جديدة شابة مضيفة: «لكن لا تنسى أننى أنا «نادية لطفى» الحقيقية»!

 

مع رشدى أباظة
مع رشدى أباظة

 

وسط بحر من البشر

وأنا هنا لا أروى قصة حياة نجمتنا التى لا تنسى، فهذا يحتاج لكتاب أو أكثر، فقط أتذكر حكايتى مع «نادية لطفي».. فقد تواصل تعارفنا وكنا فى شهر رمضان مثلا نسهر مع شلة أصدقاء فى مقهى الفيشاوى فى حى الحسين الذى تتجسد فيه مظاهر الاحتفال بالشهر المعظم، وأذكر أننا فى إحدى هذه السهرات التقينا بالفنان محمد عبد المطلب أحد نجوم الغناء الكبار، واحتفالا منه بها قرر أن يطلق لحنجرته العنان ويغنى بصوته الصدّاح الذى كان كالمغناطيس، إذ فجأة وجدنا أنفسنا وسط بحر من البشر من معجبى المطرب المتميز والنجمة اللامعة، بينما كنا قبل ذلك بلحظات نجلس فى هدوء دون أن ينتبه أحد لوجود «نادية لطفي» بيننا!

 

مع شكرى سرحان وكمال الشناوى
مع شكرى سرحان وكمال الشناوى

 

وقد لا يصدق أحد، أننى تعاملت مع هذه الفنانة بروح المشاركة الوطنية التى عرفتها من خلالها، ولم أكتب عنها حرفًا طوال حياتها، لا خبر ولا حديث ولا شىء!.. فقد انضمت عندى إلى مجموعة صغيرة من الأعلام مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وبعدها سعاد حسنى التى تعرفت عليها بعد نادية لطفى بثلاث سنوات.. وكل هؤلاء وغيرهم كنت أتعامل معهم كأساتذة وأصدقاء لا تدخل الصحافة فى علاقتى بهم.

 ولعلنى الآن أفكر: كيف تكوّنت لدى هذه القدرة على التحكّم فى علاقاتى متجاوزا عملى الصحفي.. وأقول لنفسى ربما كانت فلسفتى التى تحكمنى طوال الوقت وحتى الآن، ألا يكون لمن أعرفهم من الكبار، أى تأثير  متأثرا أو مستجيبا للنفوذ الأدبى والمعنوى لهذه الشخصيات على حياتى وعملي، واستقلال رأيي.. فلا أحب أن أكون تابعا لأحد..وهذا سر انقطاع صلتى بعدد من الشخصيات التى تعاملت معها كصحفى ثم انقطعت عنها عندما تحوّلت إلى شخصيات ذات نفوذ وسلطة، مثل شعراوى جمعة الذى عرفته محافظا للسويس. 

وكنت ألتقيه كل أسبوع لكن انقطعت صلتى به عندما أصبح وزيرا للداخلية. وكذلك ممدوح سالم وعرفته كمحافظ لأسيوط ثم الإسكندرية ولم أتصل به منذ تولى وزارة الداخلية، وأحمد كامل عرفته كمحافظ للمنيا، ثم الإسكندرية، وحضرت عملية اعتقال طلاب جامعة الإسكندرية له خلال انتفاضتهم فى 1968.. لكن عندما عيّن بعدها رئيسا لجهاز المخابرات العامة انقطعت عن الاتصال به،

 

رمسيس نجيب
رمسيس نجيب

 

 وهكذا كان الحال مع آخرين كالدكتور مفيد شهاب الذى كنت أعمل فى مجلة «الشباب العربى» وكان هو رئيس تحريرها، وأصبح أمينا عاما لمنظمة الشباب مع احتفاظه بمنصب رئيس التحرير، لكن فيما بعد عين وزيرا فلم تعد لى به صلة، ولا أنسى فاروق حسنى الذى عرفته بعد تخرجه فى كلية الفنون الجميلة فى الإسكندرية وعمله فى قصر ثقافة الحرية هناك، ثم تعيينه مديرا لقصر ثقافة الأنفوشى وحضورى افتتاح هذا القصر، لكنه أصبح مديرا للأكاديمية المصرية فى روما وأسعدنى ذلك ودعانى من هناك لزيارته ولم يتحقق ذلك، ثم إنه اختير وزيرا للثقافة فانقطعت صلتى به..

نعود لحكايتى مع نادية لطفى، فقد تسببت هجرتى إلى لندن فى نهاية 1980 فى انقطاع التواصل بينى وبين كثيرين ممن أعرفهم، وكان الاتصال التليفونى من لندن وقتها أمرا صعبا ينطوى على معاناة وعذاب، فعليّ أن أترك بيتى فى ضاحية «كينجستون» التى أسكنها وهى تشبه المعادى ببعدها عن قلب العاصمة، وأركب المواصلات إلى وسط لندن حيث مقر السنترال الوحيد الذى يمكننى منه الاتصال تليفونيا بالقاهرة.. وطبعا سيكون عليّ ومعى زوجتي، الانتظار طويلا فهناك طوابير لا آخر لها تضم كل من يريد الاتصال بالخارج تليفونيا..

 وهكذا لم يكن أمامنا سوى التواصل خلال زياراتى السنوية لمصر.

وفى الأسبوع المقبل نواصل