الأربعاء 2 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«الطائر الشارد» بكامل أناقته

عماد الدين موسى
عماد الدين موسى

يضم الديوان الرهيف «كسماء أخيرة» بين دفتيه القصائد (بينما الأزهار تتساقط/ الغابة لا تحتمل الغابة- أثر- موسيقى- الوردة صباحاً- كمن يصطاد السماء- لا بد من مرآة- كيفما شاءت السنونوات- حياتى التى فى قفة- من أجل تغريدة- وإذ ترنو العصافير إلى غصن بعيد- مرافئ أخرى أيضاً- ريح مالحة- أغنية السماء الهائلة- ست مسودات- صباحاً كهتاف- ماذا أقول ليدك فى الوداع؟- الطائر هذا الصباح- نشوة- أنشودة- كسماء أخيرة)..



الشاعر والقصيدة عاشقان أزليان. من بدأ منهما بالهمس؟ هذا سؤال يلح دائماً وأبداً فى هواجس المفكر الدهرية. لكن الجواب الناعم عصى على العيون التى تمل النظر ولا تنعم التأمل فى التفاصيل. وقد أعاد ديوان الشاعر الرقيق عماد الدين موسى (كسماء أخيرة) إلى ذهنى تشبيه بورخيس للشعر بأنه رموز محضة لذكريات مشتركة، وهو المعنى الأقرب لوصف هذه القصائد فليس جمال الشكل هو الغرض فى الأساس وإنما التذكير بالخفى من الذكريات بيننا. وليس الإبداع كائن حربائى (ويبدو أكثر صواباً أن نرد جمال الشكل إلى التعبير- جورج سانتيانا، الإحساس بالجمال) بل إن (الشكل فى الفن هو دوماً أكثر من مجرد شكل- ميلان كونديرا، فن الرواية). خيال الشاعر هنا متقن مخملى وبلاغاته ثرية متنوعة لتأخذ ألوان وبهاء اللوحات التشكيلية أمام عين القارئ، والديوان لم يترك شيئاً من منحنيات الطبيعة إلا استعار منه شيئاً من دون رجعة، متعهداً، وفق قواعد الشعر، بتجميل ما أخذه لأبعد درجة. 

إن القصائد مخلصة لذاتها، نقية لا تهجين فيها ولا تزييف لهوية مؤلفها، لا حشو فيها ولا تطويل. بعضها كالنهر الجارى فى الروح يُنظِّف نفسه بنفسه. تستعيد الذكريات من مظاهر الطبيعة ما دامت لا تستطيع أن تضيف للماضى بينما قد تحدث تحولات ومتغيرات قد تضاف إلى المستقبل بمنظوره ورؤاه ومنهجه. تتكرر كلمات بعينها من قصيدة لأخرى لتأكيد وحدة الديوان وهى مسألة يعرفها الفنان صاحب الرؤية الخاصة غير المهجنة، لقد جعل (ميلان كونديرا) من بعض المسارد اللغوية، بل بعض الكلمات (مثل كيتش فى رواية «كائن لا تحتمل خفته») كانت إحدى الدعائم فى الروايات، وبالمناسبة تشير كلمة كيتش Kitsch إلى تداعى نفس الإنسان، وفى مقال شهير لهيرمان بروخ ترجمت إلى (الفن الرخيص) وترتبط فى الأساس بالنظرة الرومانتيكية العاطفية فى القرن التاسع عشر، ونذكر النفور الذى شعر به نيتشه إزاء (الكلمات الجميلة) و(معاطف الاستعراضات) لفيكتور هوجو ووصفها (كيتش)، لكن، على الجانب الآخر، الشاعر عماد الدين موسى يستخدم المظلات الملونة والمعاطف الدافئة بحيث تزدهر المعانى ازدهاراً طبيعياً بحيث يتركز ذهن القارئ على الرابط بين الأبيات، أيضاً بشكل طبيعي، هذا الجيب الخاوى فى الروح، هو بالضبط هذا الغياب الذى لا يحتمل الثقل، وكما أنّه يمكن لأحد الأطراف أن يتغيّر فى أى لحظة إلى ضدّه، فإن الخفة وقد بلغت حدها الأقصى قد صارت الثقل الرهيب للخفة بحيث لا يمكن احتمالها، وكأن الشاعر يرصُد ويسجل بفوتوغرافيا خاصة، كما قالت القصيدة التشيكية: (لا يخترع الشعراء القصائد، فالقصيدة موجودة فى مكان ما، هناك، منذ زمن طويل جداً، هى هناك، ولا يفعل شيئاً سوى أن يكشف عنها) تحطيم الحاجز الذى يختفى وراءه فى الظل، هذا الكشف المبهر والمفاجئ. لم يتنبأ نيرودا أو سكاسيل، وإنما رأيا فقط ما هو موجود (فى مكان، هناك) ويلتزم الشاعر بخدمة الحقائق الموجودة سلفاً، الحقائق التى تمنح نفسها بنفسها فيجدها (أمامه، هناك). وإليك البعض مما تجده فى شعر (رامبو): (الأبدية، اللا نهاية، الأزل، الوحدة، الكدر، الضياء، الشفق، الشمس، الحب، الخير، الجمال، الخفيّ، الشفقة، الشيطان، الملاك، الثمل، الجنة، جهنم، الملل.)، سوف تجد مسارد (نظيفة أنيقة بريئة) فى ديوان (موسى)، إنها خلاصة مثاله الداخلى ومنتهاه. وهى تتنبأ بما فى قلبه من براءة وجوع وقلق ونهم وتعصّب وليس عدم تسامح وتسلّط رامبو وكان يعبد، (بودلير)، الشاعر الرجيم الذى غاص فى كهوف الشر.. وبينما جاءت قصائد كليهما لتؤكد أن القرن التاسع عشر بالكامل، كان معذباً بمسألة الإيمان. ديوان (كسماء أخيرة) يحاول حل هذه الإشكالية: كيف ننقل عالماً بكل غموضه وتعقيداته إلى الوجدان؟.. وكيف نأسره؟ هل بأساليب المعنى التى نعمل بها؟ كيف يمكن لقدم مربع من الورق أن يشتمل على ما لا حد له؟.. إننا نعرف أن هذا ممكن، لكن كلمات عماد قدمت هذا الممكن مجسدا!

 

 

 

الحركات الموسيقية فى قصائد الديوان، سبع حركات فى مجملها (فوج بطيء، سريع بشكل لا تصنيف له، بطيء يعرض قيمة واحدة، بطيء وسريع على شكل تنويعات، سريع جداً (سكيرزو)، بطيء جداً يعرض تيمة واحدة، سريع على شكل سوناتا). كذلك يتحدد إيقاع القصائد بالعلاقة بين ديمومة الظواهر الطبيعية لجزء ما والزمن الحقيقى للزمن المحكى وتجميد لحظات زمنية كبيرة ورؤية التباينات بين الأزمنة بحيث يغدو فصل العلاقة سالفة الذكر أشبه بعملية جراحية دقيقة لفصل توءمين سياميين متصلين! سوف تراها فى هذه الأمثلة من الديوان: (الأصابع حيتان/ وتحلم/ بمزيد من المياه الراكدة) (الأصابع/ تصغى بألم/ لموسيقى الأشجار) (أقف ويداى مسلبتان/ كمن يتهيأ لالتقاط صورة تذكارية/ لوحدته اللا متناهية) (بعين واحدة أنظر إلى حياتي/ نظرتى ترنو إليّ/ فيما أناى تفقد دهشتها) (الحياة سيرتنا الناقصة/ دفتر قيامة مؤجلة) (خذ يدى أيها الطائر/ وامنحهما بعضاً من حرية جناحيك) (فى الوداع لا بد من مرآة/ يُحطمها أحدنا فى أثر الآخر) (المدينة خالية تماماً/ إلا من ذكرى/ المدينة/ التي/ تستوى على نار هادئة). (مشحونة بالمعنى) تعبير رائع قاله (عزرا باوند) ويقصد به الشعر (فقط الشعر لأنه كان شعرياً فى وصفه بسبب تخصصه كشاعر.) ويمكن تطبيق هذا القول على القصيدة: (الشباح أيضاً/ الأشباح/ التي/لا ظل لها./الأشباح بقمصانها الرمادية/ كحياة ليست لها/ الأشباح وهى تهمس فى أذن الشجرة الوحيدة/ أن تتعلم الطيران.) (كندم صامت/ وينطفئ/ تقلب أوراقها الأيام/ فصل آخر يمر/ فصل آخر/ بكامل أناقتك المعهودة/ فصل آخر/ دون قبلان حميمية تذكر/ فصل/ ربما أخير/ أيها الطائر الشارد/ فى وردته الوحيدة.)