
رشدي الدقن
أسرار عملية الفنية العسكرية
فى يوم 18/4/1974 قام عدد من الإرهابيين الصغار وبعض طلاب الكلية الفنية العسكرية بالهجوم على حراس بوابة الكلية وحراس مستودع الأسلحة من أجل السيطرة على الكلية والاستيلاء على الأسلحة الموجودة فيها لمهاجمة مقر اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى واحتجاز الرئيس الأسبق محمد أنور السادات وإجباره على التنازل عن الحكم وإعلان قيام حكم إسلامى فى مصر!
الهجوم الإرهابى أسفر عن مصرع 11 شخصا وإصابة 27 آخرين.. ولم يتمكن الإرهابيون من السيطرة على الكلية، وفشلت العملية.. لكنها جرّت مصر ودولا عربية أخرى لمسار من دوامة العنف والتطرف والتكفير لم يتوقف إلى اليوم!
العملية الفاشلة جاءت ولم يمضِ 6 شهور على انتصار السادات فى معركة العبور العظيم، وسنتان على الإفراج عن آلاف المساجين الإسلاميين من سجون عبدالناصر، وقام من يطلقون على أنفسهم «إسلاميين» بمحاولة انقلاب على السادات، الذى أطلق على عهده دولة العلم والإيمان!!

قائد التنظيم الإرهابى الذى خطط ونفذ عملية الفنية العسكرية هو الفلسطينى «صالح سرية».. والذى يعد شخصية مركزية فى جماعات العنف والتطرف المصرية بشكل خاص، والعابرة للقارات بشكل عام، فهو أول من أسس تنظيما ذا خلفية إسلامية للاستيلاء على السلطة بالقوة العسكرية، مما جرف خلفه الكثير من الشباب والطاقات لمسار مدمّر ومهلك دون ثمرة، ولم يتبين ذلك لأغلبهم إلا بعد سنوات طويلة فى غياهب السجون كقادة الجماعة الإسلامية وبعض قادة جماعة الجهاد، بينما لا يزال يواصل نهج الفوضى والتدمير آخرون كأيمن الظواهرى وأتباعه ومن انشقّ عنهم فيما بعد كالخليفة المزعوم أبى بكر البغدادى.. ومن خلفوه فى تنظيم داعش.
ولد صالح سرية فى قرية «إجزم» التابعة لمدينة حيفا فى فلسطين سنة 1936م، وبقى فيها حتى وقعت هزيمة 1948م وقامت دولة اليهود، فقامت قوات الجيش العراقى التى انسحبت بنقله وكثيرٍ من الفلسطينيين للعراق وعمره 11 سنة، فأكمل تعليمه الأساسى هناك، ثم انتظم فى كلية الشريعة بجامعة بغداد.. وحصل على البكالوريوس سنة 1958 وحصل على الدكتوراه من جامعة عين شمس سنة 1972.. وبعدها تم توظيفه فى منظمة التربية والثقافة بجامعة الدول العربية كخبير فى إدارة التربية.

بحسب رواية صالح سرية نفسه، فإنه كان عضوا بجماعة الإخوان منذ إقامته فى العراق وأصبح من قادتهم، وأنه كان يرى ضرورة قيام الإخوان بانقلاب عسكرى قبل ثورة 1958 بالعراق، وأنه فاتح القيادة بذلك، والتى طمأنته بأن الأمر قريب، وبعد الانقلاب اكتشف صالح أن الإخوان شركاء فيه وليسوا قادته، وهو ما أغضبه ولم يقبل به، وحاول مع بعض الضباط فى الإخوان أن يستولوا على الحكم، لكن الشيوعيين كانوا أسرع من الإخوان وجاءوا بعبد الكريم قاسم واستولوا على الحكم.. وهنا حاول صالح سرية مع جماعة الإخوان القيام باغتيال عبد الكريم قاسم.. وفشلوا فشلا ذريعا.. وهو نفس الفشل الذى صادفه فى محاولة اغتيال الرئيس البكر ونائبه صدام حسين.
جاء صالح سرية لمصر سنة 1971، فى البداية انشغل بإكمال دراسته للدكتوراه، والتى حصل عليها فى السنة التالية، وفى القاهرة قدم طلب لجوء سياسى لسفارة الأردن، وذكر فى الطلب أنه سبق له الاشتراك بمحاولة انقلاب فى الأردن فرفض طلبه! وكذلك قدم طلب لجوء لسفارة ليبيا ورُفض الطلب أيضا،.. وبعد حصوله على الدكتوراه تعاقد مع جامعة الرياض ليدرس فيها، ولكن فى ليلة السفر جاءت برقية للسفارة بمنعه من السفر للسعودية، فتعاقد مع منظمة التربية والثقافة التابعة للجامعة العربية.
كانت البداية فى تواصل صالح سرية مع الإخوان من خلال زينب الغزالى التى زارها عدة مرات وأقام فى منزلها فترة طويلة هو وزوجته.. وتدارس معها حال الإخوان وأنه لا يصلح النهج السلمى الذى يسيرون عليه، وأنه لا بد من استعمال القوة للوصول لتطبيق الإسلام! فوافقته زينب على ذلك ولكن أخبرته بضرورة مراجعة المرشد حسن الهضيبى بأى شأنٍ يخصّ الإخوان، ورتّبت له مقابلة مع المرشد بناء على طلب سرية، وفى اللقاء أخبره سرية بسوء أوضاع الإخوان فى مصر والخارج وضرورة إعادة تنظيم صفوفهم ليتمكنوا من الاستيلاء على السلطة وإقامة الدولة الإسلامية! وتكررت اللقاءات وتكرر عرض سرية حتى تم تكوين تنظيمه الخاص.
التقى سرية بعدد من قادة المجموعات التى تكونت سابقا فى تنظيم «نبيل البرعى» وانشقّت عنه- وهو ما تحدثنا عنه فى الحلقة السابقة- فالتقى بإسماعيل طنطاوى، لكنهم لم ينسجموا بسبب فكر طنطاوى المائل للمنهج السلفى نوعا ما، بينما كان سرية متأثرا بالإخوان.
وقابل صالح سرية.. يحيى هاشم ولكنهما اختلفا أيضا على منهج التغيير حيث كان سرية يفضل أسلوب الانقلاب العسكرى بينما كان هاشم يصر على طريقة حرب العصابات.. والتقى سرية بمجموعة تكفيرية متطرفة يقودها محمد إبراهيم سالم وشكرى مصطفى.. وعبد الله السماوى، لكنه لم ينجح معهم أيضا، الغريب أن هذه المشاورات كانت شبه علنية!
فى النهاية استطاع صالح سرية عن طريق زينب الغزالى التعرف على بعض الشباب الصغار من أعضاء جماعة الإخوان، بالإسكندرية على رأسهم «طلال الأنصارى» طالب بكلية الطب الذى كان يرأس مجموعة من الطلبة تربّت على أفكار سيد قطب العنيفة والتى تكفر المجتمع.. وبات الأنصارى أحد أهم معاونى سرية.. وفى اعترافات لاحقة قال إن مرشد الجماعة «الهضيبى» قال لصالح سرية عندما عرض عليه خطة الفنية العسكرية: «اتكلوا على الله إن وفقكم الله فنحن معكم وإن لم تنجحوا فإننا لا نعرفكم».
الشخصية الثانية المهمة فى تنظيم الفنية العسكرية.. طالب الكلية الفنية «كارم الأناضولى» الذى كان ذا ميول دينية مستترة.. وتعرف أيضا على صالح سرية بوساطة من زينب الغزالى.. وكارم الأناضولى.. فتح الباب لصالح سرية للتعرف على مجموعة من زملائه بالكلية الفنية وسخّرهم للتنظيم.

الشخصية الثالثة المهمة التى انضمت للتنظيم كان «حسن الهلاوى» الذى كان قد انفصل عن تنظيم إسماعيل طنطاوى وأحد مؤسسى تنظيم الجهاد مع مصطفى يسرى من مجموعة القاهرة، وكان طالبا بجامعة الأزهر ويسكن فى منطقة الطلبية هرم، وكان نشيطا لدرجة كبيرة سواء فى خطب الجمعة أو حضور وإلقاء الدروس الدينية بالمساجد وهذا هو الإطار العلنى للتنظيم، أما الإطار السرى فقد أسس مجموعة تتبنى فكرة الخروج على «الدولة»، وتولى الهلاوى منصب الإفتاء فيها.
كانت أول عملية شارك فيها «حسن الهلاوى» ومجموعته هى اقتحام الكلية الفنية العسكرية.. وجاء فى نص التحقيقات أنه كان يخشى فشل العملية.. واعتبرها مخاطرة غير محسوبة العواقب فاقترح على المجموعة التى كان يقودها «صالح سرية» أمير التنظيم أن تذهب إلى العملية مصطحبة كشاكيل دراسية وأن يتجهوا أولا إلى مسجد جمال عبدالناصر بجوار الكلية الفنية حتى لو حدث وفشلت العملية وتم القبض عليهم يدعون أنهم جاءوا لمسجد عبدالناصر لحضور محاضرة دينية.
المثير والملاحظ فى قضية الفنية العسكرية.. أنهم استخدموا راية سوداء وكان صالح سرية يقول لهم دائما رايتنا سوداء كراية أحمد.. وفى هذه العملية الفاشلة ظهرت أول طريقة للذبح.. فقد أعطى سرية أحد الإرهابيين الصغار مطواة وقال له: ستتقدم أنت وعشرة معه لتذبحوا هذا الكلب قاصدا أحد حراس الكلية.. وهذه الطريقة «الذبح» والراية السوداء ستجدها فيما بعد أساسيات عمل تنظيم داعش.
النيابة العامة وقتها أصدرت بيانا حول المحاولة الإرهابية الفاشلة قالت فيه نصا: «كشفت التحقيقات التى واصلتها النيابة العامة عن المخطط الكامل للحادث، حسبما وضعته قيادة التنظيم، فاتضح أنه عقدت اجتماعات تنظيمية عدة على مستوى القيادة أيام 12 و15 و16 أبريل الجارى، حيث تم خلالها وضع الخطة الكاملة لتنفيذها استهدفت التنظيم من الاستيلاء على مقاليد الحكم فى البلاد».
ومضى البيان قائلاً: «وتقوم هذه الخطة- حسبما أقر به المتهمون- على أن يتجمع أعضاء التنظيم من القاهرة والإسكندرية بميدان العباسية مساء الأربعاء 17 أبريل ثم اختيرت منهم مجموعة مكونة من ثمانية عشر فرداً تتولى اقتحام مبنى الكلية الفنية العسكرية بمساعدة طلبتها المُنتمين للتنظيم والذين اتفق على أن يقوموا باعطاء إشارة ضوئية لزملائهم فى الخارج إيذاناً ببدء الهجوم. وكان سبيلهم فى اقتحام الكلية استعمال السلاح الأبيض فى القضاء على مقاومة الحراس.
وتم إعداد ملابس عسكرية ليرتديها أولئك المهاجمون حتى يسهل أنهم من بقية طلبة الكلية.
وعقب اقتحام الكلية يقومون بفصل التيار الكهربائى عنها للسيطرة عليها بعد تحذير الحراس بالداخل وعلى أبواب الأخرى أو احتجازهم.

وعقب السيطرة على الكلية ينضم إليهم سائر أفراد التنظيم الذين كانوا ينتظرون التعليمات بذلك فى أماكن قريبة من الكلية ويتم القبض على الضابط ومدير الكلية لدى حضورهم إليها فى الصباح واحتجازهم كرهائن والاستيلاء على أسلحة يتحرك بها أفراد التنظيم بسيارات الكلية إلى قاعة اللجنة المركزية، حيث اجتماع السيد رئيس الجمهورية بأعضاء اللجنة ومجلس الشعب».
ومضى بيان نيابة أمن الدولة العليا قائلاً: وعن طريق إيهام حراس القاعة بأن متفجرات بداخلها تحدث حالة ذعر يتمكن خلالها أفراد التنظيم المسلحون من دخول القاعة واعتقال السيد رئيس الجمهورية وكبار المسئولين المتواجدين بها ثم يلقى رئيس التنظيم صالح عبدالله سرية عن طريق موجات الإذاعة بياناً يعلن فيه الاستيلاء على مقاليد الحكم والأسس التى يقوم عليها الحكم الجديد والتى تتكون من نقاط عشر صاغها وحررها بخطه. وفى سبيل الإعداد لتنفيذ ذلك المخطط تم شراء وإعداد مجموعة من الملابس العسكرية وزعت على أفراد التنظيم.
كما تم شراء كمية من الحبال لاستخدامها فى قيد الحراس بالداخل وشراء مادة منومة تذاب فى مشروب يدس بواسطة أعضاء التنظيم من طلبة الكلية لحراس الأبواب الأخرى بغية تخديرهم.
وفى مجال التنفيذ وبعد أن حانت ساعة الصفر المحددة وأُعطيت إشارة البدء به قامت مجموعة الاقتحام بالقضاء على حارسى البوابة الخلفية للكلية بواسطة الأسلحة البيضاء التى كانوا يحملونها واستولوا على بندقيتى الحارسين وتمكنوا بذلك من دخول المبنى وافساح الطريق لمجموعة أخرى للمشاركة فى التنفيذ واتجه فريق منهم إلى مخزن سلاح لواء الجنود فى محاولة لاقتحامه إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك، حيث اعترضهم بعض حراس الكلية وهم فى الطريق إلى هذا المخزن، ووقع قتال بالأسلحة النارية والبيضاء انتهى إلى مصرع 11 شخصاً وإصابة 27 شخصاً أدى إلى فشل خطة المهاجمين وضبطهم فى الوقت الذى كان بعض طلبة الكلية من أفراد التنظيم قد تمكنوا فيه من الوصول إلى مكان كابينة الإنارة واستطاعوا اقتحامها بعد اعتدائهم على العاملين بها وتواصلوا إلى فصل التيار الكهربائى فترة من الوقت، إذ تبين لقادة التنظيم خارج المبنى فشل الهجوم فقد سارعوا إلى صرف بقية المجموعات.
ومضى بيان النيابة قائلاً: كما كشفت التحقيقات عن الأسلوب الذى كان يتبع فى تجنيد الشباب للتنظيم تحت ستار الدين، وكان قادة التنظيم يراعون فيمن يجرى تجنيدهم أن يكونوا من الشباب الحديثى السن ومعظمهم من طلبة الجامعات والمدارس الثانوية إضافة إلى الكلية الفنية العسكرية.
كما كان يراعى فى اختيار الأفراد أن يتسموا بالاندفاع والتهور والاستعداد لتنفيذ ما يؤمرون به دون تردد التزاماً بمبايعتهم لرئيس التنظيم على السمع والطاعة. كما كان يراعى فى هؤلاء كذلك ألا يكون لهم ارتباطات يحرصون عليها من وظيفة أو زوجة أو ولد وعدم ارتباطهم بجماعات دينية أخرى خوفاً من إفشاء سر التنظيم. كما ثبت من التحقيقات أن بعض أولئك الذين جندوا من التنظيم هربوا عند التنفيذ عندما استشعروا خطورة ما هم مقدمون عليه وتوجهوا إلى سلطات الأمن للإدلاء بالأمر.
كما ثبت من التحقيقات كذلك أنه كان هناك تخطيط مسبق لمهاجمة بعض المنشآت الحيوية بمدينة الاسكندرية وضبطت لدى أحد المتهمين كروكات مفصلة لها. وقد اعترف المتهم صالح عبدالله سرية رئيس التنظيم وهو فلسطينى والذى يحمل وثيقة سفر لاجئ من حكومة العراق بأن له تاريخاً فى القيام بعمليات إرهابية ببعض الدول العربية وأنه سبق أن تقلب بين عدة تنظيمات متباينة الاتجاهات. واختتمت نيابة أمن الدولة بيانها قائلة: هذا وقد تم القبض على أفراد التنظيم وما زال التحقيق جارياً..

وقد كشفت التحقيقات أن المتهم صالح عبدالله سرية سافر إلى ليبيا بخطاب دعوة من مكتب العلاقات الليبى بالقاهرة مؤرخ فى 6 يونيو 1973 وبامضاء محمود حسام الدين البكوش القائم بأعمال المكتب بالوكالة.
وأن المتهم اعترف فى التحقيق بأنه التقى خلال هذه الزيارة بالعقيد معمر القذافى على انفراد ولمدة طويلة.. كما اعترف بأن الهدف من هذه الدعوة كان يتعلق بتوحيد المنظمات الفدائية الفلسطينية «إلا أن هذا الهدف تحول إلى بحث إنشاء منظمات فدائية داخل الدول العربية للقيام بأنشطة مشروعة وغير مشروعة».
هذا وستوالى نيابة أمن الدولة العليا إصدار البيانات التى تكشف أبعاد هذا التنظيم المشبوه وأهدافه. وانتهت المحكمة إلى إعدام صالح سرية وكارم الأناضولى، والسجن على الكثير من الشباب الصغار، والذين اختلطوا فى السجن بجماعات وتنظيمات أخرى مما أفرز انشقاقات فيما بينهم، حيث انفصل الهلاوى ومن معه عن مجموعة الأناضولى التى تبنّت العنف.
بعد إعدام صالح سرية نشرت جماعة الإخوان بشكل مكثف دراسته «رسالة الإيمان» ووزّعتها فى الجامعات وصار المناخ مناسبا لظهور جماعات جديدة، وفعلا قام بعض أعضاء تنظيم سرية لاحقا بتأسيس تنظيم الجهاد الذى سينموا ليغتال الرئيس السادات سنة 1981.