الخميس 20 فبراير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

شمس الأصيل

من نصف قرن مضى، ونحن ننتظرها رغم الغياب لأنها «شمس الأصيل»، نداء النيل لكى يفيض، ننتظرها مرتين كل يوم، مرة فى الساعة الثالثة عصرا، ومرة فى الحادية عشرة مساء، إذ يتهادى لنا صوتها من إذاعة الأغانى بالحب، وبالشوق، وبالأمانى.



تماما كما كان جيل الآباء ينتظرونها فى حفل كل خميس مرة كل شهر فى الساعة العاشرة مساء. صوتها يستعصى على الزمن، يلغى فروق التوقيت، فنحن إليها فى كل وقت، وفى كل انتظار نتطلع إلى إنسانيتها الفريدة، الشخصية الفذة، والغناء الراقى، فإذا تناهى إليك صوتها غابت نجوم الليل وسطعت وحدها كوكبا للشرق، فإذا أصغيت لها ظلت تهدل كيمامة هديلا عذبا متواصلا.

 

 

 

 وإذا صدرت عنها تنهيدة حسبتها كروانا يسجل شكايته فى أناة، فإذا خلوت لصوتها وهى تغنى، و«من سكون الأوصال وهى تجيد»، تفتحت لك عوالم ثرية من الخيال، والأفكار، والتسبيحات، والترانيم، والنهزات، والهسهسات، وحفيف أوراق الشجر، وترقرقت الأمواج الساكنة فهى بين ثورة وغضبة وبين عتاب وحنين، فإذا احتشدت كل تلك الأصوات فى خيالك، بين عصف وروّية، وهمس وصمت، وقرار وجواب تكون قد أنصتّ لصوت الحياة، تصطخب بأنهارها، وبحورها، وتستفيض بشقشقات عصافيرها، وتنويرات طيورها بين رفرفة، وتحليق، فصوتها الأيقونة نحمله فى حبات قلوبنا، نتوارث ماسه، وجواهره، ونكتنزه سرا من أسرار الحياة، طربا لوقت الحاجة، هزة سرور من الأعماق، رعشة فى عز الصيف، ولمسة دفء فى عز الشتاء.

صوت الحياة

صوت أم كلثوم حجاب محبة، خمسة وخميسة فى خصلة كل مولود، حب، خرزة زرقاء كالتميمة، سبع حبات خيرات تتفاءل بالحياة، وتحتفل بالأعياد.

صوتها سبع سنابل فى أيام الجفاف، وتدفق بيادر فى مواسم الحصاد، هى صوت الناس، وصوت الوطن، حملت حنجرتها من أشجار بلادنا ألف عصفور، وخمسة آلاف بلبل، وثلاثة أرباع ما فى بلادنا من صوت المزامير الطروب، ومن بلاغة صوت الناى الذى يحول الشجن إلى فرح فى عرق صوتها أعراق من ذهب فتكوينه جد فريد، عرق من فضة ثم عرق من ذهب، ثم آخر من بلاتين، ورصعته هى طوال الوقت بفرائد من الشعر العربى فكان لها من الغناء أكثر من ثلاثمائة أغنية، تشابكت فى صوتها الألحان القديمة والجديدة، تعلمت على يد الشيخ «أبوالعلا محمد»، وقد كان واحدا من جيل «سيد درويش» ممن كانوا يحلمون بأن الموسيقى العربية يجب أن تنطلق إلى آفاق جديدة، وكما يقول «رجاء النقاش» فى كتابه «لغز أم كلثوم»: كان «أبوالعلا» صاحب رسالة يريد أن يؤديها، ويحققها بنفسه، وبغيره فكلما أتاحت له الظروف أن يكتشف قدرات ومواهب جديدة يمكن أن تساعد على تحقيق الرسالة التى يحلم بها تعهدها بالرعاية، فقد كان يؤمن بأن الله يرزق مصر دائما بالموهوبين والنابغين وهو خير الواهبين.

 

 

 

و«أم كلثوم» فى مذكراتها تصف منزلته عندها، وتشجيعه ورعايتها لموهبتها فتقول: «إن أمى وأبى هما صاحبا الفضل الأول علىّ فى حياتى، أما الثالث فهو الشيخ «أبوالعلا محمد» ويكفينى أن أقول إنه جعلنى لأول مرة أفهم ما أغنيه، وعندما أقمت فى القاهرة لأول مرة كنت أسكن مع والدى وأخى «خالد» فى فندق «جوردون هاوس» كان للفندق شرفة تطل على شارع فؤاد، وكان الشيخ «أبوالعلا» يظل يغنى لى فى الشرفة، ويدربنى على الغناء طوال الليل، لم يكن يتوقف إلا فى الصباح عندما يبدأ الترام فى السير». كان الشيخ «أبوالعلا» يصر على غناء الشعر العربى الأصيل، وكانت «أم كلثوم» تحفظ عنه ما يغنى من قصائد، وقد تبنى صوتها «الشيخ أبوالعلا محمد» منذ جاءت من قريتها«طماى الزهايرة» - مركز السنبلاوين عام 1923، وكأنه يعرف أن عصرا جديدا من الغناء قد بدأ بهذا الصوت الذكى القوى الفياض، وقد غنت له عددا من القصائد منها «وحقك أنت المنى والطلب»، من تأليف الإمام عبدالله الشبراوى، و«الصب تفضحه عيونه»، من تأليف «أحمد رامى»، و«اقصر فؤادى» لرامى أيضا، «وأمانا أيها القمر المطل» من تأليف إسماعيل صبرى باشا، و«أفديه إن حفظ الهوى» من شعر ابن النبيه المصرى.

روح الشعب

حملت أم كلثوم فى داخلها أعراق القرية المصرية، فقد غنت فى النجوع والكفور والقرى، عرفت مزاج الناس، وتعرفت على أحلامهم، وآمالهم، وآلامهم عن قرب فكان صوتها دائما مواسيا، ومؤازرا، حاملا صوت الفرح، ودقات الفرج، يشد العزائم عند الشدائد، ويصهل بالطرب فى لحظات الإيناس.

فكانت «أم كلثوم» تعبيرا بليغا عن الحب والانتماء، نغمة مصرية أصيلة تدخل القلب لتسكنه ثم لا تبرحه، بل تقيم فيه مثل مقامات الغرام، ومقامات الصبا، والشجن، وكما يصفها رجاء النقاش فى كتابه «لغز أم كلثوم»، فيقول: «لقد أصبحت نغمة صافية للحب والسعادة بالنسبة للشعب العربى كله، على مدى نصف قرن كامل أو يزيد منذ عام 1923 - 1975».

يوم بيوم، وأغنية بأغنية

وهانحن فى غيابها نصف قرن مازلنا ننتظر سطوع «شمس الأصيل» فإذا مررت بشاطئ النيل فلا بد أن تذكرها، وهى تذهب وتفضض بصوتها كلمات بيرم التونسى، فترنم معها: «شمس الأصيل دهّبت/ خوص النخيل يا نيل تحفة ومتصوّرة/ فى صفحتك يا جميل»، ننتظرها لأنها لا تحمل فى حياتها قصة حياتها فقط، لكن تحمل حيواتنا معا، عواطفنا الثرة، خيالاتنا، ثورتنا، صوت الوطن فينا، فمعها «دارت الأيام»، و«أقبل الليل»، و«هلت ليالى القمر»، و«دليلى احتار»، و«لاح نور الفجر»، و«الليل أهو طال»، و«رق الحبيب»، و«فرحة الأحباب»، و«جمال الدنيا»، ومعها تغنينا ببلد المحبوب، إذا غبنا فى سفر وغابت عن حبة القلب لحظة «على بلد المحبوب ودينى/ زاد وجدى والبعد كاوينى/ يا حبيبى أنا قلبى معاك/ طول ليلى سهران وياك/ تتمنى عينى رؤياك/ أشكيلك وأنت تواسينى/ يا مسافر على بحر النيل/ أنا لى فى مصر خليل/ من بعده ما بنام الليل/ على بلد المحبوب ودينى».

والكلمات لأحمد رامى الذى غنت له حوالى مائة وسبع وثلاثين أغنية «137»، من بين مائتين وثلاث وثمانين أغنية «283» على وجه التقريب لأن الناس فى حياة «أم كلثوم» لم يسجلوا كل ما غنت لأنهم كانوا يعيشون معها يوما بيوم، وأغنية بأغنية كما ذكرت د. نعمات فؤاد فى كتابها: «أم كلثوم - عصر من الفن»، وهو موسوعة شاملة عن حياة «أم كلثوم».

 

 

 

نخلة النيل

معها غنينا للوطن «على باب مصر» من كلمات كامل الشناوى، و«الله معك»، من كلمات صلاح جاهين، و«مصر تتحدث عن نفسها»، من شعر حافظ إبراهيم، و«قصة السد» لعزيز أباظة، و«مصر» من شعر إبراهيم ناجى، و«ثوارى لعبدالفتاح مصطفى، و«طوف وشوف»، من كلماته أيضا، ومعها ننشد ويخفق القلب، وتنبض الحواس، وهى تحتشد وتغنى: «قوم بإيمان وبروح وضمير/ دوس على كل الصعب وسير/ حق بلادك وحده عليك/ عايز منك سعى كتير/ دوس على كل الصعب وسير»، والنشيد من كلمات عبدالوهاب محمد.

لقد أبدع صوتها فى غناء الشعر، فحلق معها بجناحيه: الفصحى والعامية.

فتحدث أحمد رامى عن إحساسها العميق بالكلمة والنغم فقال: «إذا أردت أن تكون شاعرا فاقرأ الجيد من الشعر العربى، والعالمى، وأكثر من الاستماع إلى «أم كلثوم»، وذلك لأنها تجلو الألفاظ فتجعلها واضحة مشحونة بالعاطفة، وتخلق لدى من يسمعها فى نهم إحساسا عميقا بالكلمة والنغم وعذوبة الأداء».

أما الشاعر السودانى محمد المهدى المجذوب، فقد وصفها عندما زارت السودان، فقال: «يا «أم كلثوم» هذا النيل خضرته/ فيض بصوتك أعطارا وألوانا/ يا نخلة النيل إثمارا وعافية/ هاتى لنا الثمر المعسول ألحانا».

ارتبطت «أم كلثوم» بالمكان، وقبضت بكلتا يديها على بذور الانتماء، أحبت قريتها حبا عظيما، بل رأت فيها العالم تماما كما رأى نجيب محفوظ فى حى من أحياء القاهرة أنشودة خالدة، فعندما سألته عن حى «السكرية» من أين يبدأ وأين ينتهى؟ فقال لى فى حوار صحفى عن أحياء القاهرة - يبدأ فى داخلى ثم لا ينتهى.

ويبدو أن سر العظمة فى هذا الانتماء الذى يجعل المنتمى شخصية تمتلك كل عناصر الغنى والثراء، وها هى «أم كلثوم» تصف قريتها فتقول فى مذكراتها: «وكنت أغنى فى القرى المجاورة، وكانت كلها قرى صغيرة، وكنت أحسب أن مركز السنبلاوين هو أكبر مدينة فى الدنيا».

 

 

 

أول أسطوانة

إن الجمهور الذى سمعها فى الريف، واقتربت من وجدانه، كان سر نجاحها عندما ارتحلت إلى القاهرة فتقول فى مذكراتها إن جمهورها عندما كان يأتى إلى القاهرة كان يقبل على شراء أسطواناتها فهى المطربة التى عرفها فى الريف، فلم تكن هناك إذاعة بعد، ولم تكن مطربات القاهرة المشهورات فى ذلك الوقت يذهبن إلى الريف وتقول:

«وكانت أول أسطوانة سجلتها كانت أغنية «مالى فتنت بلحظك الفتاك»، وهى أغنية لحنها لها «أحمد صبرى النجريدى»، وسجلتها شركة أسطوانات «صوت سيدة» بالقاهرة، إن الشركة سجلت لى هذه الأسطوانة وهى تقدر مقدما أنها صفقة خاسرة لهذا لم أتقاض من الشركة أكثر من ثمانية جنيهات، هى كل مستحقاتى عن حقوق التسجيل، ثم فوجئت الشركة بأنها حققت فى الأسطوانة أرباحا ضخمة مع أن ثمن الأسطوانة كان عشرة قروش، كيف حدث ذلك؟! إننى لم أكن معروفة بعد لجمهور القاهرة فمن هو الجمهور الذى اشترى تلك الأسطوانة».

وكانت الإجابة ببساطة هى جمهور الريف الذى عرفها وعرفته، كنزها البشرى من البسطاء الذين أحبوها، وعشقوا فنها، وكانوا سر نجاحها.

فكرتها عن الحياة

ارتبطت «أم كلثوم» بأهدافها، وكانت كلها تتعلق بعملها، وإجادة فنها، فلقد كان الغناء هو فكرتها الأولى عن الحياة كما يقول «محمود عوض» فى كتابه «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد، فالحوار داخل منزلها كان دائما: ما هو موعد الحفلة؟ موعد التسجيل، موعد البروفة؟

فنها هو حياتها، وحياتها فى شخصيتها

الانتماء هو الفكرة الأساسية التى صنعت عبقرية أم كلثوم، الانتماء للوطن، لإتقان العمل، لأهل قريتها، لأسرتها وهى تحكى فى مذكراتها عن أبيها باعتزاز فتقول:

أعطانى أكبر ثروة، أعطانى حنانه، أعطانى اهتمامه، أعطانى إصراره، على أن أنجح، وأن أتعب قبل أن أنجح، إن أبى علمنى درسا مهما، علمنى أن النجاح وليس ثمن النجاح هو المهم.

ولقد كان الإخلاص لعملها أبرز سماتها، ولذا قال عنها الموسيقار «محمد عبدالوهاب»

من مظاهر إخلاصها ما يراه المستمع فى «أم كلثوم»، إنه لا يرى مطربة تغنى ولكنه يرى فنانة تتعب، فنانة تعرق، تعطى كل ما عندها للمستمع دون أن تضن عليه.

سبعة كراملات!

وتذكر «أم كلثوم» فى مذكراتها أيضا أن والدها كان الحنان، وأمها كاتن الرحمة وسط أجواء طفولة صعبة فتقول:

عندما أتذكر طفولتى تقفز إلى ذهنى أشياء كثيرة: البرد، المطر، الفقر، الطرحة السوداء، الشاى التقيل، الجبن القريش، الثروة التى كانت قرشا، والحنان الذى كان أبى، والرحمة التى كانت أمى.

وتحدثت عن قيمة الصدق التى تعلمتها من والدتها منذ طفولتها فلقد كانت «ثومة»، وأختها وأخوها يلعبون بأدوات المنزل فيتكسر بعضها أحيانا، وكانت الأم تقول لهم: «اللى يكسر حاجة، وييجى يقول لى، يأخذ السبعة!

والسبعة هى سبع كراملات.

(قطع صغيرة من الحلوى، والمفردة كرملة).

كان والدها الشيخ «إبراهيم البلتاجى» إماما ومؤذنا لمسجد قرية «طماى الزهايرة»، وكان والدها وأخوها «خالد» ينشدان التواشيح الدينية، ووالدها هو الذى اكتشفها واصطحبها معه ومع أخيها لينشدوا أعذب التواشيح الدينية، وكانت صاحب فكرة ارتدائها العقال والبالطو فقد كان الغناء غريبا على الفتيات فى ذلك الوقت، لكن الأب الذى كان يتمتع بذكاء فطرى وبمجرد أن استقروا فى القاهرة وأقاموا فى شارع «قوّلة» بحى عابدين، أحضر لها والدها عودا، وعلمها «محمود رحمى» العزف عليه، وطلب إليه والدها أن يدربها على غناء أكبر عدد ممكن من التواشيح، لا لكى تغنيها بل ليكون أرشيفا غنائيا تحتفظ به فى عقلها.

وانتقلت بذور أفكار التطوير إلى «أم كلثوم» فاقترحت على أبيها أن تغنى بمصاحبة أوركسترا، وتذكر ذلك فى مذكراتها فتقول:

بدأت أغنى بمصاحبة أوركسترا لأول مرة فى مساء الخميس 7 أكتوبر 1926، وكان أول أوركسترا موسيقية اتفق معها أبى تضم الأستاذ «محمود العقاد» وهو من أمهر عازفى «القانون» وقتها، والأستاذ «سامى الشوا» على الكمان، والأستاذ «محمد القصبجى» على العود، وفى أول ليلة غنيت فيها مع الأوركسترا نجحت التجربة نجاحًا هائلا، ودفع لى «صديق» أفندى متعهد الليالى خمسين جنيها عن الليلة الأولى فقط، ثم وقع معى عقدا بدفع خمسة وثلاثين جنيها عن غناء الليلة بعد ذلك.

 

 

 

تراث أصيل وثقافة عصرية

وقد جمعت «أم كلثوم» بين ثقافتين، حفظت عن طريق الشيخ «أبوالعلا محمد» أدوارا كثيرة «لمحمد عثمان»، و«عبده الحامولى»، و«يوسف المنيلاوى»، وللشيخ أبوالعلا نفسه الذى كان يلحن لها أغانيها فى البداية، كما أحاطت نفسها بعناصر من أفضل المثقفين فى عصرها فساعدها هذا كله على أن تحس بروح العصر، فقرأت مع «أحمد رامى» كتاب «الأغانى» ومختارات «البارودى» وديوان «شوقى» أمير الشعراء، ويعود ارتباطها بالتقاليد الفنية الجديدة إلى العديد من الملحنين مثل «السنباطى» و«كمال الطويل» و«الموجى» و«بليغ حمدى»، و«عبدالوهاب».

وقد أثرت «أم كلثوم» حياتنا الغنائية بالقصائد والأشعار فغنت من قصائد أمير الشعراء «أحمد شوقى»: «عيد الدهر»، و«أتعجل العمر»، و«سلوا قلبى»، و«سلوا كؤوس الطلا»، و«وولد الهدى»، و«النيل»، و«السودان»، و«إلى عرفات الله».

وستظل أغنياتها وقصائدها الدينية زادنا فغنت من أشعار «شوقى» و«طاهر أبى فاشا»، و«محمد إقبال»، و«صالح جودت».

وقد غنت لصالح جودت «الثلاثية المقدسة» والتى مزج فيها بين الروح الوطنية والروح الدينية التى تدفع النفس للبناء والتجدد والتطور، وقد أضاف صوت «أم كلثوم» للكلمات جلالا فوق جلال، وجمالا فوق جمال فأنصت إليها وهى تغنى:

أنا البيت قبلتكم للصلاة/ أنا البيت كعبتكم للرجاء/ فضموا الصفوف وولوا الوجوه/ إلى مشرق النور عند الدعاء/ وسيروا إلى هدف واحد/ وقدموا إلى دعوة للبناء/ ويزكى بها الله إيمانكم ويرفع هاماتكم للسماء.

رمز وطنى

المواقف الوطنية لأم كلثوم هى التى جعلتها رمزا وطنيا وإنسانيا خالدا فعندما تعرضت مصر للغزو الثلاثى عام 1956، وأصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا قرارا بتجميد الأرصدة المصرية لديها، ولم يعد فى مصر أية أرصدة أجنبية تسمح حتى باستيراد الأدوية والأغذية، ذهبت «أم كلثوم» تتبرع بما تملكه، ولم يعرف أحد بذلك إلا بعد سنوات طويلة.

وبعد نكسة1967 بادرت «أم كلثوم» بإحياء العديد من الحفلات الغنائية فى محافظات مصر، وفى العالم العربى لجمع التبرعات لصالح المجهود الحربى.

كما ذكر «محمود عوض» فى كتابه «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد».

وقد كانت مواقفها الوطنية تتبدى أيضا فى مبادرتها الفنية لدعم صناعة السينما بفنها فقامت بالتمثيل والغناء فى ستة أفلام هى: «وداد» وهو أول فيلم من إنتاج شركة مصر للتمثيل والسينما وقد حلن، لها الأغانى فى الفيلم ثلاثة ملحنين هم: «القصبجى»، «وزكريا أحمد»، «ورياض السنباطى»، وكان أول عرض للفيلم بتاريخ 10/2/1936 بسينما «رويال» ثم إعادة العرض بمهرجان البندقية عام 1936.

ثم فيلم «نشيد الأمل»، وهو ثانى فيلم لها، وهو عن قصة «أدمون تويما»، وسيناريو «أحمد بدرخان»، وحوار وأغانى أحمد رامى وقد لحن الأغانى: القصبجى، والسنباطى، وكان العرض الأول بتاريخ 11/1/1937 بسينما «رويال» وشاركها فى التمثيل «زكى طليمات» و«عباس فارس» ومبدعون آخرون»، وفيلم «دنانير» عن قصة وحوار «أحمد رامى»، وأنتجته شركة «أفلام الشرق»، ومن بطولتها وشاركها فى التمثيل عباس فارس وسليمان نجيب وآخرون وكان أول عرض للفيلم بتاريخ 29/9/1940 بسينما «ستوديو مصر»، ولحن الأغانى:

محمد القصبجى، وزكريا أحمد، ورياض السنباطى وكان الفيلم الرابع «عايدة» من إخراج «أحمد بدرخان» وقصة «عبدالوارث عسر» وكانت الأغانى والأشعار «لأحمد رامى»، وموسيقى وألحان «لمحمد القصبجى» و«رياض السنباطى»، و«حسن الشجاعى»، و«إبراهيم حجاج»، وكان العرض الأول بتاريخ 28/11/1942 بسينما «ستوديو مصر».

أما الفيلم الخامس فكان «سلامة» وهو من إخراج وسيناريو: «توجو مزراحى»، وقصة «على أحمد بالكثير»، وكتب له الأغانى والحوار «بيرم التونسى» عدا قصيدة واحدة هى «قالوا أحب القس سلامة»، وقد لعب دور البطولة أمامها يحيى شاهين وكان أول عرض بتاريخ 9/4/1945 بسينما «ستوديو مصر».

والفيلم السادس «لأم كلثوم» كان «فاطمة» وكان من إخراج وسيناريو «أحمد بدرخان»، عن قصة «لمصطفى أمين»، وحوار «بديع خيرى»، والأغنيات «لبيرم»، وتلحين «زكريا أحمد».

وتم أول عرض للفيلم بتاريخ 15/12/1947 بسينما «ستوديو مصر».

وضم الفيلم أغانى «لرامى» من تلحين «القصبجى» ولحن الخيام كتبه «بيرم التونسى» ولحنه «زكريا أحمد»، وغنته «أم كلثوم» (نصرة قوية وفرحة هنية/ وألف سلامة وألف سلام/ نصرة قوية يديمها عليّ/ وعلى أحبابنا اللى حواليه/ هما هنايا وضى عينيه/ اللى صفولى مع الأيام».

.. وهكذا استطاعت «أم كلثوم» أن تجتذب لأفلامها أجمل الكلمات وأحلى الألحان، فكتب لها الأغانى أشهر الشعراء ولحنها كل الذين تعاونت معهم فى رحلتها الغنائية فتطور فنهم أيضا، واجتذب جمهورا جديدا هو جمهور السينما، وهكذا تحولت رحلة أم كلثوم من دهشة الاكتشاف إلى روعة الإبداع، فهى التى كتبت فى مذكراتها:

كانت القاهرة عندما بدأنا نستقر فيها عام 1926 كالمريخ، كل شيء نكتشفه فليها لأول مرة، كل شىء فيها مختلف عما رأيناه من قبل.

لكنها استطاعت أن تقيم الدنيا ولا تقعدها، وأصبحت رمزا فالفنان الصادق هو الذى يخلص لهويته وشعبه، ولقد فاقت شهرة «أم كلثوم» أعظم المطربين فى العالم الذين استمع إليهم الفرنسيون على مسرح «الأوليمبيا»، بل إنها أصبحت أشهر من «جاك دارك»، وتفوقت على «أديث بياف»، و«ماريا كالاس» كما ذكرت جريدة «فرانس سوار».

.. وبعد نصف قرن من الغياب لا يسعنى إلا أن أنتظرها كل يوم، فى تمام الساعة الثالثة عصرا فهى شمس الأصيل.

وفى تمام الحادية عشرة مساء على إذاعة الأغانى فهى «ست الكل».

«نورك يا ست الكل نور حينا

وسعدك اللى بان شرف قدرنا

فى البعد كان القلب دايما عندكم

وفى كل طلعة شمس أسأل عنكم».