ما تيسر من سيرة «ثومة»
طارق مرسى
لا تتوقف تظاهرات تجديد الحب لسيدة الغناء العربى أم كلثوم والإيمان برسالتها الغنائية الملهمة والعابرة للأجيال رغم مرور 50 عاما على رحيل أول من جسّد المعنى الحرفى لمقولة «المغنى حياة الروح» التى أطلقتها.
فى يناير 2023 وحسب استفتاء هو الأكبر من نوعه فى تاريخ الغناء أعلنته مجلة «رولينج ستون» المتخصصة فى عالم الموسيقى لأعظم 200 مطرب فى التاريخ عبر 100عام من العشرينيات وحتى العام الماضى جاءت كوكب الشرق فى المركز الـ61، وهى المطربة العربية الوحيدة فى القائمة النهائية على مستوى العالم.
القائمة ضمت أيضًا مطربين من عصور مختلفة من الماضى والحاضر منهم ريهانا، وليدىجاجا، وبيونسية، وويتنى هيوستن، فريدىميركوري، ألفيس بريسلي، فرانك سيناترا، إلتون جون، بوب مارلي، أديل. «رولينج ستون» Rolling Stone أو «الحجارة المتحركة» مجلة أمريكية متخصصة فى الموسيقى، وطرح أول أعدادها بتاريخ 9 نوفمبر من عام 1967، دائما تسلط الضوء على أهم المطربين المؤثرين فى المستمعين للموسيقى من مختلف أنواعها خلال السنوات، من حول العالم، وفى عام 2008 نشرت المجلة، لأول مرة قائمتها لأفضل 100 مطرب، واستخدمت عملية تصويت دقيقة تضمنت وجود موسيقيين مشهورين، لتكون النتائج مبنية على ثوابت، ولذلك وبعد 14 عاما قررت المجلة من جديد إضافة 100 مغن ومغنية جديد إلى القائمة.
ووفقا لتقرير المجلة، أن «كوكب الشرق» أم كلثوم ليس لها نظير فى الغرب وتعتبر «روح العالم العربي»، وصاحبة تأثير امتد لما هو أبعد من الغناء ونقلت نطاقًا عاطفيًا مذهلًا فى الأغانى المعقدة التى يمكن أن تستمر بسهولة، عبر الموضوعات المتنوعة بصوت رنان فعال ينقل نطاقًا عاطفيًا خاطفًا للأنفاس فى أغانيها المعقدة التى تستمر بسهولة لمدة ساعة بينما جمعت حشودا من الجماهير وكأنها واعظ حماسى ونارى وأن وفاتها فى 3 فبراير عام 1975 جلب الملايين إلى شوارع القاهرة حزنًا، بينما كان تأثيرها بين المطربين العرب لا يُحصى.
ديانة غنائية
أم كلثوم مطربة صاحبة ديانة غنائية عمرها 100 عام تخطت حدود مصر إلى الوطن العربى ومازال مريدوها يزدادون عاما بعد عام، فمصر كما يقول التاريخ مهبط الديانات السماوية فهى أيضًا مهبط أصحاب الديانات الغنائية العابرة للأجيال والأزمان من «ثومة لحليم» وهما آخر المواهب الربانية أصحاب الرسالات الغنائية والمواهب الإلهية.
عشرات الكتب والرسائل العلمية والدراسات والأبحاث الموسيقية العربية والأجنبية تحدثت عن قرب ومن بعد عن عظمة أم كلثوم وروعة كتالوجها الغنائى الذى ليس له مثيل، بعضها خرج فى صورة مذكرات عن حياتها الشخصية والعوامل التى شكلت هذا التفرد والعبقرية، وكتب نشرت عن عظمة أعمالها وجماليات صوتها، منها «معجزة الغناء العربى أم كلثوم» للدكتورة رتيبة الحفنى، الذى يتضمن كواليس من نشأة كوكب الشرق، والظروف المتعلقة بالأغانى التى قدمتها وتعاونها مع الملحنين ومؤلفى الأغاني، والأفلام السينمائية التى قدمتها، كما يتناول الكتاب الشهور الأخيرة فى حياة أم كلثوم، وفى مقدمة الكتاب تقول المؤلفة: «قالوا عن أم كلثوم إنها أسطورة، وصفوها فى الغرب بأنها أشهر من جان دارك وأنها تفوقت على إديت بياف وماريا كالاس، هذه العملاقة التى بدأت منذ فترة مبكرة وعاشت وسط الفلاحين، لأنها فلاحة من ريف مصر السخي، ذاقت الفقر والحرمان والجوع والشقاء، واستطاعت فى النهاية أن تصل إلى أعلى مراتب التقدير من شعبها ومن شعوب العالم».
أما كتاب «لغز أم كلثوم» تأليف الناقد رجاء النقاش فيكشف جوانب متنوعة من حياة أم كلثوم، وسبب بزوغ نجم أم كلثوم كما يروى تفاصيل لقاءاته مع كوكب الشرق خلال سفره معها إلى السودان وإلى ليبيا، ويتعرض الكتاب لقصة الحب بين أم كلثوم وأحمد رامى، وعلاقتها بعلى أمين وزكى مبارك وغير ذلك من الموضوعات.
وكتاب «صحبة العشاق» خيرى شلبى.
مطربة قومية
ويرسم فيه بورتريه لكل شخصية، خصص فصلا بعنوان «أم كلثوم شخصيا!» ويقول فيه:«توازنت فى أم كلثوم قوتان: قوة الصوت وقوة الشخصية، وقد لعبت الشخصية أدوارا هامة وخطيرة فى قوة فى خدمة الصوت، ولعب الصوت أدوارا مهمة وخطيرة فى خدمة الشخصية، ولو أن هذا الصوت القدير الكبير كان بدون شخصية فى مستواه أو شخصية دونه بقليل لحول أم كلثوم من مطربة فقط، إلى مجرد أداة لإمتاع القوم فى سهراتهم لقاء ما يغدقونه عليها من أموال سخية. ولكن أم كلثوم استطاعت أن تكون شيئا أكثر من مجرد المطربة، أن تكون شخصية قومية كبيرة تلعب أدوارا فى السياسة وتشارك فى أحداث قومية بل تصبح علما على أمة بأسرها من المحيط إلى الخليج، وهى الصبية القادمة من إحدى قرى مصر الكثيرة اسمها «طماى الزهايرة» مركز السنبلاوين.
وإلى جانب الكتب المتخصصة جاءت دراسة لكاتبة فرنسية تروى سيرة أم كلثوم بعنوان «سفيرة الفن والسياسة»، وبحث أمريكى صدر فى كتاب بعنوان «صوت مصر أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصرى فى القرن العشرين» للباحثة الأمريكية فرجينيا دانيلسون» وصدر عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1997 وقام بترجمته الباحث والأديب عادل هلال عناني، بالإضافة إلى فصول طويلة عن أم كلثوم فى كتابات كبار الكتاب أبرزهم الكاتب أنيس منصور بعنوان «إنها أم كلثوم الله الله يا ست» فى كتابه «عاشوا فى حياتى» وكتاب زمن الغناء الجميل للكاتب مجدى نجيب.
المرجعية الأولى
قبل هذه الإصدارات المهمة تصدرت د.نعمات أحمد فؤاد، وكانت أول من قدموا كتابًا عن كوكب الشرق، «أم كلثوم: عصر من الفن» هو الكتاب الثانى للمؤلفة عن كوكب الشرق، أما الثانى فقصة عصر، سيدته هى أم كلثوم، وجاء فى الكتاب الأول ابتداء من مولدها وطفولتها وقصتها مع الكتاب والقرية قبل أن تقف على أعتاب الشهرة، ومجيئها إلى القاهرة أول مرة وما حدث لها من مفارقات، وذكريات روتها بنفسها عام 1952، وهو مصدر لكل من كتب عن أم كلثوم بعده، وكتاب عن أم كلثوم فى عام 1964 روت ذكرياتها مرة أخرى للكاتب العملاق على أمين بمناسبة صدور مجلته (هي) وقد نشرها فى الأعداد الأربعة الأولى تحت عنوان: «مذكرات أم كلثوم» وتعد الكتب الثلاثة من المرجعيات المهمة عن كوكب الشرق واستكمل الكاتب محمود عوض هذه الثلاثية المصرية بكتاب إنسانى عن مطربة القرن تناول جوانب شخصية عنها وأسرارا لا يعرفها أحد عنها.
وفى عام 1969 نشر الكاتب محمود عوض كتاب «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد» ورصد عبر 157 صفحة أسرارا من حياتها فى كتاب صغير ولكنه ثمين فى رسالته ومعانيه يتضمن قسمين، الأول من أم كلثوم نفسها عن بدايتها الفنية، أما القسم الثانى عن أم كلثوم، رصد فيه «عوض» فى بدايته ببراعة واقتدار واقع المجتمع المصرى عام 1926 على المستوى الغنائى والاجتماعى الذى أحدثت فيه انقلابا شاملا وأعادت تشكيل الخريطة الغنائية وانبهار 20 مليونا و217 ألف نسمة وهو تعداد القطر المصرى فى هذا التوقيت لهذه المعجزة الغنائية وكيف زاحمت أصواتا لها نفوذ وسطوة مثل منيرة المهدية سيدة الغناء فى هذه الفترة وفتحية أحمد وأنقذت الغناء من الخلاعة والابتذال وكيف تأقلمت الفتاة الريفية فى القاهرة التى شبهتها بالمريخ لاختلاف طبيعة الحياة فيها عن الريف المصرى.
كوكب الشرق التى اخترقت كوكب المريخ «القاهرة» -على حد وصفها - فى الكتاب المهم ليست مجرد مطربة يسهر الملايين فى أنحاء العالم العربى لسماعها فى الخميس الأول من كل شهر. لقد كانت دنيا بأسرها.. كانت موهبة، وشخصية ونفوذًا وسلطة عاطفية وتناقضاَ حادًا بين حياتها الخاصة وحياتها العامة، وهذا ما يقدمه ويفسره هذا الكتاب عن أم كلثوم بقلم الكاتب محمود عوض، الذى كان صديقًا شخصيًا لأم كلثوم رغم اختلاف الأجيال.
عظمة على عظمة
كوكب الشرق والغرب والشمال والجنوب التى تلهب مشاعر جمهورها «أمس واليوم وغدا» بأغنياتها. اعتدنا أن نسمع عبارة «عظمة على عظمة يا ست» التى تضرب بروتوكولات حفلاتها وقدسية وصلاتها ثم تحولت إلى «لازمة» أساسية، دون أن يعرف الكثيرون صاحب الجملة الشهيرة، وهو الحاج سعيد الطحان، أو كما يلقب «مجنون ثومة» أحد أعيان محافظة الغربية، وأحد كبار التجار، حيث يمتلك مزارع خضروات وفواكه، وتنوعت أعماله بين زراعة القطن والأرز، وتعود قصته مع حفلات أم كلثوم إلى عام 1935، وحضر أولى حفلاتها مرتديا جلبابًا مصريًا تقليديًا، ومنذ الوهلة الأولى التى غنت فيها سرق صوتها قلب الشاب الريفى سعيد، لم يترك لها حفلا إلا وحضره حتى خارج مصر، على مدار 30 عاما كاملة، وفى إحدى الحفلات، غنت «سيرة الحب» لأول مرة صرخ الحاج سعيد قائلًا لها: «تانى والنبى يا ست ده أنا جايلك من طنطا»، فأشارت له كوكب الشرق وغنت «ياما عيون شغلونى لكن ولا شغلونى.. إلا عيونك إنت دول بس اللى خدونى.. وفى حبك أمرونى».فلم يتمالك الحاج سعيد نفسه بعدها ليسقط مغشيًا عليه بين الحضور، وتنزل سريعًا كوكب الشرق من على خشبة المسرح لتساعد فى إفاقة الحاج سعيد.
وحينما غنت كوكب الشرق فى عام 1964، بمسرح حديقة الأزبكية، كانت تعزف الفرقة المقدمة الموسيقية لأغنية «أنت عمرى» التى كانت حدثًا فريدًا والمعروفة إعلاميا وغنائيا بلقاء السحاب وهى أول عمل فنى يجمع بين أم كلثوم وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وظل عبدالوهاب متوترا وفى ترقب نتيجة تقبل الجمهور للحن، خاصة أنه أصر على إدخال الجيتار الكهربائى لأول مرة، إضافة إلى تخصيصه جملا موسيقية منفردة يقوم بعزفها كل عازف على حدة، من بين العازفين كان عازف الكونترباص عباس فؤاد، الذى لم يسبق له عزف الصولو منفردًا، فكان التحدى أمامه صعبًا، لدرجة أنه أشاد به موسيقار الأجيال معلقا على عزفه قائلًا: «دى حاجة عظمة» لتلتصق كلمة عظمة باسمه لينادى بين زملائه بالفرقة بـ«عباس عظمة»، لتلتقط سريعًا آذان الحاج سعيد الجملة ليقف مرددًا وبصوت مرتفع «عظمة على عظمة يا ست»، لتصبح واحدة من أشهر الجمل التى تتردد فى حفلات أم كلثوم.