
د.ريهام عرام
«الإتيكيت» فى مصر القديمة!
كانت مصر القديمة حضارة عريقة لا تقتصر على الإنجازات المادية والهندسية فقط، بل امتدت لتشمل نظمًا اجتماعية متطورة وأخلاقيات راقية تحكم العلاقات بين الأفراد.
عرف المصريون القدماء ما يمكن أن نطلق عليه اليوم «فن الإتيكيت»، حيث صاغوا قواعد التعامل الراقى التى تنعكس فى حياتهم اليومية وعاداتهم الاجتماعية والدينية.
وبينما نشكو اليوم من تداعى الذوق العام عند البعض والافتقار إلى آداب اللياقة العامة، نجد أن المصرى القديم قد سجل على جداريات المقابر التى نحتها فى الصحراء آداب وأخلاقيات الحياة اليومية، كآداب التحية والضيافة، وآداب الجلوس إلى المائدة، والإتيكيت الاجتماعى، وآداب معاملة المرأة واحترامها فى المجتمع، وحتى نظم قواعد التعامل بين العامل ورئيسه.
دعونا نتجول فى دهاليز المقابر المصرية ونقرأ بعض النصوص التى تظهر تفرد الأخلاقيات فى العصور المصرية القديمة، ففى مقبرة «بتاح حتب» فى سقارة نجده يوجه النصح والإرشاد لابنه حينما شعر باقتراب أجله وكبر سنه وضرورة نقل حكمته إلى ابنه، حيث تزخر هذه المقبرة بالعديد من النصائح التى يضعها العلم فى وقتنا الحالى فى إطار «التنمية البشرية» أحيانًا وفن الآداب العامة أو الإتيكيت أحيانًا أخرى.

فمن آداب الحياة اليومية نقل «بتاح حتب» آداب المائدة المصرية وتقاليد تناول الطعام وآداب الجلوس حول المائدة فتوجه لابنه قائلًا فيما معناه: «إذا كنت جالسًا كضيف على طاولة شخص أكبر منك، اقبل ما يقدمه عندما يوضع أمامك، وانظر فقط إلى ما يوضع أمامك مباشرة، ولا تحدق فى الشخص باستمرار لأن فرض نفسك عليه هو استفزاز له».
وفى نفس الموضع يقول لابنه: «لا تتحدث معه حتى يدعوك للحديث لأن المرء لا يعرف أبدًا ما قد يكون مزعجًا للآخرين». وفى موضع آخر وعن آداب الطعام أيضًا يقول: «أما من أطاع قلبه معدته فإنه يدعو للازدراء بدلًا من الاحترام فقلبه كئيب وجسده بائس»، وقال أيضًا: «إن عظماء القلوب هم من أنشأهم الإله، ولكن ذلك الذى يصغى لمعدته فهى أسوأ أعدائه»، ومن نفس جبانة سقارة نجد مقبرة «كا جمنى»، وهو من النبلاء الذين تولوا أمور القيادة فى عصر الدولة القديمة، أو ما يسمى بعصر بناة الأهرامات، حيث كان الملوك يشيدون مقابرهم فى ذلك العصر على شكل أهرامات بدءًا من الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة وحتى نهاية الأسرة السادسة. فنجد كاجمنى يقول «إذا جلست إلى جمع فامتنع عن الطعام الذى تشتهيه، فالتحكم فى رغبتك سيكون لفترة قصيرة وذلك أن الشراهة أمر حقير وكأس من الماء كافية لتروى العطش ولقمة صغيرة تقوى القلب، خذ شيئًا واحدًا جيدًا بدلًا من الأطعمة الشهية وقليلًا بدلًا من الكثير، دنىء هو الشخص الذى تكون معدته جشعة».
ويقول أيضًا: «إذا جلست مع شخص شره، تناول الطعام فقط عندما يمر شعوره بالشبع، وإذا شربت مع شخص مخمور فاشرب فقط بعدما يشبع رغبته، ولا تتشاجر على اللحم مع رجل جشع، اقبل ما يقدمه لك ولا ترفضه».
وعلى الرغم من اختلاف أسلوب بناء الجملة فى الكتابة الهيروغليفية مما يجعل من الصعب الترجمة الحرفية لما ورد بنصوصهم، فإن الصورة واضحة لأخلاقيات من بنوا تلك الحضارة وكتبوا تلك النصوص حتى عاشت حضارتهم آلاف السنين.
الإتيكيت فى مصر القديمة لم يكن مجرد سلوك ظاهرى، بل كان جزءًا من فلسفة الحياة، حيث ارتبط باحترام الذات والآخرين والطبيعة المحيطة. يمكننا أن نتعلم من تلك الحضارة العظيمة كيف نرتقى فى تعاملاتنا اليومية بما يعزز من التفاهم والتسامح بين البشر. ونستكمل قراءة بعض النصوص عن القيادة والعمل فى المرات القادمة.