الإثنين 12 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

اعترافات صلاح جاهين

ريشة الفنان الكبير: محيى الدين اللباد
ريشة الفنان الكبير: محيى الدين اللباد

أعلنت ساعة جامعة القاهرة تمام السادسة صباحا.. وبصوت وأداء الإذاعية الكبيرة صاحبة الصوت الذهبى إيناس جوهر: «إذاعة الشرق الأوسط من القاهرة.. بصبح عليك.. شعارنا: غمض عينيك وامشى بخفة ودلع / الدنيا هى الشابة وأنت الجدع / تشوف رشاقة خطوتك تعبدك / لكن أنت لو بصيت لرجليك تـقع.. عجبى. نحن من جيل المحظوظين الذى اعتاد أن يبدأ يومه بالتفاؤل بسماع واحدة من أجمل رباعيات صلاح جاهين وقد حفظناها قبل أن نعرف معنى الرباعية فى شعر العامية، ومن منا لم يحفظها اكتفى بمقولة «عجبى». 



وما أن أدركنا وعينا بقيمة الرباعيات الجاهينية باعتبارها خلاصة الحكمة والفلسفة يكتبها صلاح جاهين ببضع كلمات بسيطة عميقة المعنى وسطور محدودة لتكن رفيقة أيامنا وبقدر ما تبهجنا فإنها أيضا تواسينا، حذرنا من متاعب الأحزان: «حاسب من الأحزان وحاسب لها / حاسب على رقابيك من حبلها / راح تنتهى ولابد راح تنتهى / مش انتهت أحزان من قبلها.. عجبى.

واليوم.. دخل الشتا وقفل البيبان على البيوت / وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت / وحاجات كتير بتموت فى ليل الشـتا / لكن حاجات أكتر بترفض تمــــــوت.. إنها ذكرى الـ 94 لميلاد صلاح جاهين (25 ديسمبر 1930 ـ21 إبريل 1986)، المتعدد المواهب الشاعر مؤسس مدرسة الكاريكاتير السياسى الاجتماعى المصرى الحديث، والممثل وكاتب سيناريوهات أفلام ومسلسلات وكاتب أغانى عاطفية ووطنية والأوبريتيات الغنائية والفوازير.

 

 

 

أنا وبليغ! 

محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمى جاهين.. وشهرته «صلاح جاهين» ابن حى شبرا بالقاهرة المولود فى 12 شارع «جميل باشا» منذ صغره شغوف بالفن والرسم لم يكمل دراسته بالفنون الجميلة اتجه إلى الحقوق بحسب رغبة والده أحمد حلمى المستشار القضائى ووكيل نيابة المنصورة. ولكنه ترك الحقوق أيضا!

عن فترة طفولته بحى شبرا يحكى صلاح جاهين: «حذروا مين كان جارى بالبيت بشبرا؟ بليغ حمدى آه والله، أنا وبليغ كنا طفلين مشاغبين وكانت أسرتانا تسكنان شقتين متجاورتين، فإذا أرادت الوالدتان تضعانا على الأرض فى ركن من أركان الحجرة، وكنت أكبر من بليغ بشهور، كنت أضربه وأهبشه وأضع أصابعى فى عينيه، وكان بيعضنى، ولكن المنتصر كنت أنا، ولى رجاء واحد فقط، لا تظنوا أن هذا هو السبب فى أن بليغ لم يلحن لى أية أغنية حتى الآن، فبليغ قلبه أبيض ولا يمكن أن يظل حاقدا علىّ طوال هذه السنين!

وفى سياق تلك القصة ذكر المؤرخ والناقد الفنى محمد دياب : أن بليغ حمدى أخو صلاح جاهين فى الرضاعة. عاش جاهين فترة شبابه تطارده جينيات الموهبة، أسرته كانت تعتبر أن الرسم سوف يعوق دراسته بالحقوق، فلجأ إلى كتابة الأغانى والشعر سرا حتى ظنوا أنه جالس بالمكتب يوميا يدرس وابتعد عن الرسم!

وكتب باللغة الفصحى أول قصيدة رثاء الطلاب الذين سقطوا فى مظاهرات المنصورة بعد استشهاد البطل أحمد عبدالعزيز عام 1946.

وكان حلمه أن يكون ممثلًا إلا أن والدته رفضت، بين الحين والحين يرسم مشاهد درامية وشخصيات وديكورات، وعن تلك الفترة ذكر صلاح جاهين: «أنا كنت دائما بسأل نفسى وآخرتها يا أبو الصلح هاموت روحى يعنى أرسم ولا أكتب ولا إيه حكاية التمثيل دى، قولت أكيد فى حاجة منهم هاتتغلب على الأخرى، رغم أنى بحبهم كلهم أعمل إيه بقى». 

بدأ صلاح جاهين العمل بالصحافة 1952 فى جريدة «بنت النيل» مجلة نسائية شهرية، ثم جريدة «التحرير»، وكان يرسم الماكيتات الصحفية ويصمم الصفحات (مخرج فنى) ويرسم بعض الرسوم الساخرة فى هوامش هذه الصفحات، ونصحه أحد زملائه النقاد أن يذهب للعمل بروزاليوسف وأبلغه أن الفنان عبدالسميع تركها وذهب لجريدة الأخبار. فرفض واعتبر أنه لايصح أن يذهب يعرض نفسه. إلى أن أبلغه مدير تحرير روز اليوسف الكاتب أحمد بهاء الدين أن يحضر للعمل كرسام كاريكاتير فانضم صلاح جاهين لروز اليوسف عام 1955. 

 

 

 

ونشر رسوماته فى الصفحة التى كان يكتبها أحمد بهاء الدين. وكان أول نشر حملة على حلقات ينتقد فيه صاحب فكرة أن يكون بأتوبيس النقل العام ردايو للاستماع إلى الإذاعة وسط تكدس البشر!

وبجانب عمله بمجلة صباح الخير كتب أوبريت الليلة الكبيرة عام 1957، وبالتوازى توالت إصداراته بالشعر «موال عشان القنال» 1957، «الرباعيات» 1963، «قصاقيص ورق» 1965. 

صباح الخير يا…

بالمبنى القديم لروزاليوسف بشارع محمد سعيد باشا كان لقاؤه الأول بنخبة من الكتاب ومبدعى روز اليوسف منهم: فتحى غانم، لويس جريس، كامل زهيرى، يوسف إدريس، أحمد عبدالمعطى حجازى، صلاح عبدالصبور ومن الرسامين بهجت ورجائى وحجازى وصلاح الليثى واللباد، والفنان رخا الذى اعتبره الأب الروحى للكاريكاتير. والفنان جمال كامل صديقه من كلية الفنون الجميلة.

شارك صلاح جاهين فى تأسيس مجلة «صباح الخير» 1956، فصدر العدد الأول منها فى 12 يناير 1956 لتفاجئ القارئ بموضوعات صحفية مغايرة، ورسومات مختلفة الملامح الفنية مما جعل القارئ ينتظر ويتابع الأعداد.

وعن عمله بصباح الخير حكى جاهين: «كنت برسم يوم الخميس اللى الناس هيشوفوه يوم الاثنين، كان صعب جدا أن الواحد يخمن إيه اللى هيكون مهم يوم الاثنين اللى جاى. باتابع باستمرار الأخبار والناس ووكالات الأنباء بالعالم». 

 

 

 

ولكى يكتب ويرسم انتقاداته ابتكر شخصيات كاريكاتيرية وأضافها إلى أبواب المجلة وهى: «صباح الخير يا.. قهوة النشاط، الفهامة، درش، وباب «قيس وليلى» يتحدث عن مشاكل الفتيات وصراع التقاليد القديمة مع الحديثة.

وأثناء سفره بالخارج كان يرسل خطابات يكتب فيها «عزيزى درش» يحكى رسما وكتابة عن البلد الذى يزوره، و«درش» كان هو الاسم الأشهر المتداول بالشارع المصرى. وخطابات أخرى بعنوان «الرحالة المغامر».  وفى باب «صباح الخير يا..» ويضيف بعد «يا» القضية التى ينتقدها مثل «صباح الخير يا أفلام». فيناقش أحوال السينما المصرية، أو المجتمع المصرى وأزماته، مباريات الكرة، والمخدارات، وظاهرة الانتحار.. وغيرها. 

كما ابتكر شخصية المليونير «ع. عليوة» أو «على عليوة» ووصفه أنه الشخص الذى حصل على ثروة بطرق غير مشروعة، من تأثر الناس بالشخصية كل من اسمهم «على عليوة «تقدموا بشكاوى للمجلة، علم صلاح جاهين بالشكاوى ضحك وقال: «طلع عندنا» على عليوه «كتير».

وفى بابه الشهير «شاعر جديد يعجبنى» بمجلة صباح الخير ساهم صلاح جاهين فى اكتشاف وتقديم المواهب الجديدة مثل: عبدالرحمن الأبنودى، ونشر قصية «أنا بحر» للشاب سيد حجاب، كتب جاهين فى تقديمه: «أحببت هذا الشاعر من أول شطرة، أقدم لك أيها القارئ العزيز الشاعر اسمه سيد حجاب، تذكروا هذا الاسم سيكون له شأن عظيم». 

وحين تولى صلاح جاهين رئاسة تحرير مجلة «صباح الخير» عبر عن فرحته بخفه دمه المعهودة: «عملوها الرسامون الكاريكاتوريون»، ليكون ثالث رئيس تحرير لمجلة صباح الخير بعد أحمد بهاء الدين وفتحى غانم، استمر رئيس تحرير لمدة سنة واحدة فقط، ثم تركها 1962وعاد مرة أخرى 1966 ثم تركها مرة أخرى للعمل بجريدة الأهرام. 

وكان لدى صلاح جاهين طموح فى أن تتحول مجلة «صباح الخير» لمجلة كاريكاتورية ساخرة تخاطب القارئ بالرسم فقط بدون محررين ومقالات، رفض مدير التحرير فى تلك الفترة لويس جريس.

 

 

 

 الفلسفة الجاهينية 

رباعيات جاهين تعد النقلة الثالثة فى مسيرة شعر العامية المصرية بعد بيرم التونسى وفؤاد حداد، لذا ذكر جاهين: «عندى غرور واطمع أن أكون إنسانًا يذكره التاريخ وأفضل أن يكتب عنى شاعر».

ومن قصائده المتداولة إلى يومنا هذا قصيدة عن تلون البشر ومواقفهم المتناقضة: «فى ناس بتشوفها مره وتعيش جواك سنين/ وناس فى كل مره بتشوفها تقول دى مين/ وناس تاخد حاجات وناس بتسيب حاجات / وناس ويا الساعات بتروح وتسيب حنين / وناس عشان حاجات ممكن تبيع حاجات / فى ناس بنشوفها بالألوان/ وناس جواها مش بيبان/ وناس أسود وناس أبيض/ وناس محتاجة بس أمان / وأكتر ناس تآمنهم ما بيجى الجرح غير منهم / وناس انت بعيد عنهم بتنسى معاهم الأحزان.. عجبى.  كما قدم بالرباعيات تساؤلات فلسفية حول الحياة والموت وما بينها من رحلة الإنسان وجدنا الإجابات بالعديد من الرباعيات منها: «مرغم عليك يا صبح/ مغصوب يا ليل / لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل / شايلنى شيل دخلت أنا فى الحياة / وبكرة هاخرج منها شايلنى شيل.. عجبى».

يا أهلا بالمعارك

كان جاهين من أكثر الشعراء إيمانا بمبادئ ثورة 23 يوليو فهى مصدر إلهامه وخطى خطوات مفصلية فى تطوير الأغنية الوطنية المعبرة عن قناعاته بإنجازات جمال عبدالناصر. كتب مجموعة من القصائد الوطنية التى تحولت جماهيريا وشعبيا إلى أغانٍ وطنية تذاع بكل المناسبات وإلى يومنا هذا.

فشهدت تلك الفترة تعاونا بينه وبين عبدالحليم حافظ والملحن كمال الطويل وقدموا: صورة، يا أهلا بالمعارك، احنا الشعب، بالأحضان، بستان الاشتراكية، ناصر يا حرية. من كلماته غنت أم كلثوم أغنيتين الأولى «ثوار» لحن السنباطى، والثانية من لحن كمال الطويل «والله زمان يا سلاحى» فصدر القرار الجمهورى رقم 143 باتخاذها كنشيد وطنى واستمر فى الفترة من 1958: 1977.

وعن الأغنية الوطنية تحدث صلاح جاهين: «لا أحب الأغانى الوطنية كنت شايفها مجرد أناشيد هدفى أخلى الأغنية الوطنية من غير صريخ ودبدبة وطبول، وأقدم نوعية جديدة، وهى أساسا ظهرت بعد الثورة وأن الحديث بالشارع المصرى بقى عن الطوائف التى كانت مهمشة الفلاح والأرض والعمال، القومية، العروبة، عبدالحليم حافظ بذكائه، وجد أنه يجب أن يغنى ذلك النوع، وكمان كمال الطويل كان يريد التجديد. وتلك الطوائف فرضت لون غنائها وقدمنا هذه الأغانى تعبيرا عن أفراح بلدى وأفراح الفلاحين البسطاء». 

لكن بعد نكسة 1967 أصيب صلاح جاهين بالاكتئاب، امتلأ قلبه بمرارة الهزيمة، ودخل فى دوامة من الحزن الشديد، بعد أن كان شاعر الثورة ومؤيدًا لمبادئها توقف عن كتابة الأغانى الوطنية. تأثره بهزيمة يونيو كتب «تراب دخان» 1971 وأيضا قصيدة: على اسم مصر التاريخ / يقدر يقول ما شاء / أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء. ونشرها فيما بعد فى آخر ديوان له «أنغام سبتمبرية» 1983. 

ثم كتب الدرس انتهى.. لموا الكراريس.. وغنتها المطربة الكبيرة شادية فى أبريل 1970 وهى قصيدة مؤلمة لرثاء أطفال مذبحة بحر البقر بعد هجوم الطائرات الإسرائيلية فكتب: زرع.. حصد.. قتل / إيه رأيك فى البقع الحمرا / يا ضمير العالم يا عزيزى / دى لطفلة مصرية سمرا / كانت من أشطر تلاميذى / دمها راسم زهرة.

وعقب انتصار 6 أكتوبر 1973 كتب جاهين أغنية «صدقت يا ابنى أنت» وغنتها سعاد حسنى وصورت سنيمائيًا.

 

 

 

ريجيم جاهين

ولم ينكر صلاح جاهين أنه مريض اكتئاب وأحيانا يكتئب فى مارس «شهر الربيع»، وليس دائما الاكتئاب بسبب حدث. ووصف الاكتئاب أنه مرض المهنة لرسامى الكاريكاتير، وكان يقول دائما حتى رسامين الصحف الأجنبية منهم من انتحر بسبب الاكتئاب.

وعن بدانته يحكى: انا مش بحب الأكل لكن بيحصلى الجوع الكاذب وده بيكون مع حالة القلق أثناء الكتابة أو الرسم، ولما ينتهى العمل تتنهى الحالة. أنا ممكن تقولوا عليا الرجل الأوكرديون.. لأنى رايح جاى أخس واتخن وأخس واتخن، أعمل إيه بقى». وتأكيدا لذلك ذكر الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى: إن صلاح جاهين هو اللى علمنى رقصة الفالس!

طرق صلاح جاهين تنويعات متنوعة من الشعر الغنائى منها غنت نجاة «بان عليا حبه من أول ما بان»، من تلحين كمال الطويل، كما غنت صباح له: «أنا هنا يابن الحلال»، من تلحين سيد مكاوى. ومن الأغانى العاطفية الممنوعة منع الشاعر الكبير أحمد رامى رئيس لجنة النصوص أغنيته «ولد وبنت» واعتبرها غير مناسبة.

ومع فرقة المصريين والموسيقار هانى شنودة قدمت الفرقة من كلماته: الشوارع حواديت، متحسبوش يا بنات أن الجواز راحة، ماشية السنيورة. وكتب جاهين وغنى بنفسه «أبوزعيزع، والبيانولا» غناها فى حفل على موسيقى البيانو أمام الجمهور وقام بأداء استعراضى بسيط أثناء الغناء. وأغنيات أخرى مثل: اتكلموه، أيديا فى جيوبى، المريلة الكحلى غناها المطرب محمد منير. كما غنى المطرب على الحجار رباعيات صلاح جاهين.

عمل جاهين فى السينما كممثل ومستشار فنى وكاتب سيناريو، بالتمثيل شارك بخمسة أفلام: «شهيدة الحب الإلهى، اللص والكلاب، لا وقت للحب، من غير معياد، المماليك». ومع المخرج صلاح أبوسيف عمل معه فى مهمة المستشار الفنى بفيلم «الكرنك» وكتب ذلك بتتر الفيلم.

ارتبط بالسندريلا سعاد حسنى ارتباطا إنسانيا وفنيا ودائما تقول عنه إنه الأب الروحى، كتب لها سيناريو فيلم «خلى بالك من زوزو» 1972 بأغنياته الشهيرة منها: ياواد ياثقيل، استنى. وزوزو، ويعد الفيلم علامة فارقة فى تاريخ السينما المصرية تجاوز عرضه 54 أسبوعا فى سابقة لم تحدث من قبل، كما كتب سيناريو وحوار أفلام: أميرة حبى أنا، شفيقة ومتولى، المتوحشة. ودعم أحمد زكى ورشحه للبطولة أمام سعاد حسنى بالمسلسل التليفزيونى «هو وهى» الذى كتب له السيناريو والحوار والأغانى فى عام 1985.