الإثنين 12 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

.. وأيامنا الحلوة

أنشد صلاح جاهين أشعاره وأغنياته للحب والجمال، وظلت كلماته تبعث على البهجة، ومحبة الناس والحياة. 



 ونحن نحتفل بذكرى ميلاده فإننا نحتفل بشاعر كبير أثرى حياتنا الأدبية، والغنائية والسينمائية بأعماله وكتاباته، كما عبر فى رسومه الكاريكاتيرية عن قضايا اجتماعية مهمة بخطوطه المميزة. 

 صلاح جاهين «1930-1986»، هو الشاعر الذى إذا استمعت إلى كلماته يقفز قلبك بين ضلعيك فرحا فهو بحق الشاعر الذى عبر عن أشواق المواطن المصرى، والعربى إلى الكلمة الصادقة، وعبر عن الوجدان الشعبى فى بساطة آسرة.

 

 

 

روح التأمل

وتعد رباعيات  صلاح جاهين من أهم  أعماله الشعرية فقد اعتمدت على التكثيف والبراعة فى التقاط اللحظة والموقف وإضفاء روح التأمل بل والخروج بفلسفة خاصة تصور الحياة اليومية للإنسان، وعلاقته بالوجود، رباعياته من حيث الشكل والمضمون هى الحكمة مقطرة فى كلمات، صافية المعنى، متأججة بالعاطفة، تتصل بموسيقات كالدفقات نابضة بالحياة، ومنها رباعيته التى تتفتح آفاقها من الفرح ليوم واحد، ثم تتحول إلى آلاف الاحتمالات بأفراح جديدة، وأسميها أنشودة للجمال، ويقول فيها صلاح جاهين: 

«انشد يا قلبى غنوتك للجمال وارقص فى صدرى من اليمين للشمال ماهوش بعيد تفضل لبكرة سعيد ده كل يوم فيه ألف ألف احتمال.. عجبى»!

وحملت رباعياته شحنات عاطفية ترفدها صور شعرية لافتة مثل قوله «كان فى قمر كأنه فرخ الحمام»، فتندفع قوة التخيل ممزوجة بلغة مرهفة تجمع بين بلاغة الفصحى وحيوية العامية بمفردات شعبية مثل «ينصرك» وكأن الشاعر يمد يده ليصافحك أو يربت على باطن كفك، ويشد عليها فى مؤازرة وفرح فيقول:  كان فيه قمر كأنه فرخ الحمام على صغره دق شعاع شق الغمام أنا كنت حاضر قلت له ينصرك إشحال لما ح تبقى بدر التمام.. عجبى. 

اندفع شاعرنا فى حب الحياة فصورها فى رباعياته ببلاغة العاشق الذى استقطر لحظاتها، وعتقها فى بلورات من سكر يحدوه الإيمان بالحب فيقول متأملا صراع الإنسان بين الحياة والموت ومحاولة البحث عن قارب للنجاة فيقول: 

بحر الحياة مليان بغرقى الحياة صرخت خش الموج فى حلقى ملاه قارب نجاة !.. صرخت قالوا مفيش غير بس هو الحب قارب نجاة.. عجبي».

تصدر أشعاره عن حكمة عميقة، اختزنها وكتبها بعد تأملات للحياة وأحوال الناس، فاستخرج لآلئ حكمته بمفردات غنية وكأنه استقاها من مواويل شعبية تستند إلى أفئدة ذكية وخبرات حياتية وشعورية فيقول للنفس الإنسانية كى تنصرف عن عالم الأحزان: 

 

 

 

«حاسب من الأحزان وحاسب لها حاسب على رقابيك من حبلها راح تنتهى ولابد راح تنتهى مش انتهت أحزان من قبلها.. عجبى».

وليل القاهرة المسحور 

احتفل شاعرنا بمظاهر الجمال فى الطبيعة ومثل شعراء الرومانسية تعلق بلغة الورد، وعشق الأقمار فمزجها بحكمة اجتلائها وتأملها متعلقا بتفاصيل الحياة فيقول متغنيا بليل القاهرة: 

أوصيك يا ابنى بالقمر والزهور أوصيك بليل القاهرة المسحور وإن جيت فى بالك اشترى عقد فل لأى سمرا.. وقبرى أوعاك تزور.. عجبى!

وكان «جاهين» منشغلا بالناس، يفكر بهم كأجداده من الشعراء الشعبيين الذين ارتبطوا بالعامة، ومعاناتهم اليومية، وعلى قدر فرحه بالحياة كان يتمنى للناس هذا الفرح فكان يفكر بغيره، ومن رباعياته التى يصور فيها محبته واهتمامه بالآخرين: «إيش تطلبى يا نفس فوق كل ده حظك بيضحك وانتى متنكدة ردت قالت لى النفس: قول للبشر ما يبصوليش بعيون حزينة كده.. عجبى 

هذا الشعور الدفاق بمحبة الناس كان الرابطة الحقيقية التى جمعت بين هذا الشاعر النبيل وجمهوره فانظر إليه وهو يدل قارئه على مواطن الجمال فى الطبيعة والكون: 

مزيكة هادية الكون فيها انغمر وصيف وليل وعقد فل وسمر 

يا هلترى الناس كلهم مبسوطين 

ويا هلترى شايفين جمال القمر..

 

 

 

عجبى

المربع الشعرى 

ورباعيات جاهين تمتد بأعراقها إلى الفن الشعرى الشعبى «المربع» الذى يعتمد على مقطوعات تتكون من بيتين يتضمنان أربع شطرات، وهو شكل شعرى قديم يصفه الشاعر عبدالستار سليم فى كتابه «واو عبدالستار سليم» فيقول: «هذا الشكل ابتدعه «ابن قزمان» المولود فى «قرطبة» وتطور هذا الفن على يد «ابن العروس»، الذى ولد وعاش فى «قنا» بصعيد مصر، وعاش فى عصر الممماليك وانتصر شعره للناس فى هذا الشكل المربع، وكان «ابن عروس» ذا موهبة شعرية فطرية، فابتدع طريقة للتعبير تعتمد على التدخل الصوتى من حيث التقطيع أو الاتصال الذى يحافظ على القوافى المنطوقة وليست المكتوبة.  وكتب فى هذا الشكل بيرم التونسى، ومن شعرائنا المحدثين كتب فيه عبدالرحمن الأبنودى وآخرون.  حدوتة 

وقد أبدع شاعرنا فى فن الأغنية فكتب العديد من الأشعار لأغنيات شهيرة تغنى بها كبار المطربين والمطربات، كما كتب أغنيات العديد من الأفلام السينمائية. 

ومن أجمل الأغنيات التى تغنى بها «محمد قنديل» أغنية «حدوتة» والتى استوحى فيها جاهين عالم الحكايا والأساطير الشعبية، والتى يقول فيها: لو كنت ست الحسن والجمال يكون أبوزيد الهلالى أنا لكى أول الحدوتة فى الدلال وأنا آخر الحدوتة ليا الهنا

وفى هذه الأغنية لا يملك العاشق سوى قلبه دليلا فى الطريق إلى ست الحسن فيقول: 

آه من طريقك الطويل / ولا ليا غير قلبى دليل / عطشان يا مية سلسبيل/ حالى يا ست الحسن حال /إرخى شعورك الطوال / خدينى من حر الجبال». 

وتبلغ الأغنية ذروة إبداعها عندما يتسع أفق الأغنية فلا يصبح الشاعر أسير حب «ست الحسن» لكن يصبح عاشقا للكون متمثلا فى عيون الشمس، لقد وصل إلى الحب كمعنى للوجود الإنسانى فيقول فى بلاغة: 

وإن ما لقيت عندك لقلبى دوا لأعشق عيون الشمس وأهوى الهوا 

ويرتبط التعبير عن الحب فى أغنيات شاعرنا بالانفتاح على الحياة، والأمل، ففى أغنياته ذلك الدفء الذى نستشعره مع صوت «نجاة الصغيرة» وهى تغنى من كلماته «عيون الحليوة»: 

شباك الأمل وفتحته / والدنيا جناين تحته/ يا دموعى خلاص ارتحتوا /.. من إمتى يا قلبى فرحنا / والدنيا بقت تشرحنا / من أول ما بان!/ وعيون الحليوة يا عينى بحر من الحنان». 

 

 

 

ولقد عبر «جاهين» فى بساطة عن مشاعر الفتاة المصرية وعاطفتها النبيلة فى بساطة آسرة، من خلال لغة غنائية تزينها الموسيقى، ومن هذه الأبيات ما تغنت به «صباح» و«من الشباك»: 

فى الغيب أنا شايفاك /قلبى انكشف عنه الحجاب ولقاك / فى الغيب أنا شفتك / قلبى شاورلى عليك وعرفتك / أنت اسمرانى جميل / لك غية فى المواويل / والقلب لك بيميل / من قبل ما يكون لى نصيب وياك / وأنا هنا يا بن الحلال / لا عايزة جاه ولا كتر مال / باحلم بعش أملاه أنا / سعد وهنا يا ابن الحلال  شاعر الثورة 

ويعد «صلاح جاهين» بحق هو شاعر الثورة المصرية  ثورة 23 يوليو 1952 فقد عبر عنها فى قصائده وأغنياته فقد كان يملك حسا وطنيا مفعما بحب مصر، ينبض قلبه بالكلمات فتولد أشعارا يتغنى بها الجميع. 

وقد نشأ شاعرنا نشأة لعبت دورا مهما فى تكوينه الشعرى، وغذت شعوره الوطنى، فجده أحمد حلمى واحد من تلاميذ الزعيم  الوطنى مصطفى كامل، وأحمد حلمى جد شاعرنا كان قد تولى رئاسة تحرير جريدة «اللواء» الناطقة باسم حزب «مصطفى كامل»، وكان من أكثر المتحمسين له وللروح الجديدة التى يمثلها، وتعرض هذا الجد «فى نضاله للسجن من الإنجليز، وكان كاتبا وشاعرا، وقد عاش شاعرنا طفولته فى هذه الأجواء. 

أما والده فقد كان قاضيا شغل بقضية «بهوت» وكانت قضية صراع بين الفلاحين وبعض الإقطاعيين. 

وكان ذلك عام 1951 فتأثر شاعرنا ووعيه الفنى بقضايا الفلاحين، وانطبعت هذه القضية فى وجدانه، فاختار من يومها لموهبته أن تجد مادتها الفنية فى حياة الشعب ومشاعره».

  كما يقول رجاء النقاش فى دراسته «صلاح جاهين الشاعر والإنسان» ونشرت مع ديوان «عن القمر والطين». 

ومن أشهر أغنياته الوطنية التى كتبها عام 1957 أغنية «زفة» وتقول كلماتها: «محلاك يا مصرى وانت ع الدفة والنصرة عاملة فى القناة زفة 

يا ولاد بلدنا تعالوا ع الضفة 

شاوروا لهم / غنوا لهم وقولوا لهم 

ريسنا قال.. مفيش محال راح الدخيل، وابن البلد كفّى» 

وقد تغنت كوكب الشرق «أم كلثوم» بهذه الأغنية، ولحنها الموسيقار «محمد الموجي»، كما تغنت أيضا بكلماته فى نشيد «والله زمان يا سلاحي»، وقد لحنها الموسيقار «كمال الطويل»، وتقول كلماتها: 

والله زمان يا سلاحى اشتقت لك فى كفاحى انطق وقول أنا صاحى يا حرب والله زمان». 

الله معك 

كما أنشدت كوكب الشرق من كلماته أيضا نشيد «الله معك» من ألحان الموسيقار «رياض السنباطى»، وتقول كلماتها: 

يا صابر الصبر الجميل الله معك / ما أروعك يا شعبنا وما أشجعك / جرحك «فلسطين» يوجعك تزداد وجود / وتحول الأحزان بارود فى مصنعك / والله معك.. الله معك.. الله معك 

ومن أغنياته الوطنية ما تغنى به «عبدالحليم حافظ» «بالأحضان.. بالأحضان يا بلدنا يا حلوة بالأحضان».  ولقد واكب جاهين بأشعاره قضايا الناس، وتيار الثورة المصرية منذ عام 1952 لحظة بلحظة فكان صادق التعبير، وطنيا وقد تأججت مشاعره فى حماسة فكتب «أغنية إلى أسوان»، فقد ارتبط وجدانه بأغنيات العمل أو كما قال رشدى صالح فى كتابه عن الأدب الشعبى فى عبارة عن الشاعر اليونانى «فرجيل»: «لنمش ونحن نغنى يخف تعبنا من جراء السفر». 

فيقول «جاهين» فى أغنيته إلى أسوان: 

اعمل لنا مفتاح يا صنايعى يا فلاح نفتح بيبان الخير 

أسوان ملانة حديد 

انهض ومد الإيد ما تمدهاش للغير 

وتدفقت أغنيات شاعرنا متغنية بالثورة مندفعة بروح ثورية أصيلة، يغذيها وعيه الوطنى، ومشاعره، ونشأته بين جده أحمد حلمى تلميذ الزعيم مصطفى كامل، ووالده القاضى الذى تبنى قضايا الفلاحين مدافعا عنهم ضد الظلم والإقطاع. 

ومن هنا كانت كلمات جاهين المؤمنة بالناس فيقول فى قصيدته: «احكم يا شعب»: احكم يا شعب / احكم يا شعب / وخد بنفسك مكانك/ الأمر صعب / والنهى صعب.

امسك بيدك ميزانك /احكم وقول يا بلادى كونى سعيدة / عيشى فى أيام مجيدة / واحكم يا شعب. 

أيامنا الحلوة 

 

 

وقد تغنت أشعار «جاهين» بإنجازات الثورة المصرية ومنها السد العالى فامتلأت كلماته بالأمل، وحب العمل فيقول فى قصيدته «أيامنا الحلوة»: 

 أيامنا الحلوة جاية / هناك قدام عينينا السد العالى طالع / جايب معاه مصانع 

جايب معاه مزارع 

 جايب لاشتراكية 

أيامنا الحلوة هلت 

 وجاية فى الطريق 

 والحلم ظنونه ولت

 وبقى بحق وحقيق 

وقد نشرت معظم هذه القصائد فى ديوان جاهين بعنوان «عن القمر والطين». 

راية العرب 

وقد صورت قصائد جاهين أشواق المواطن المصرى والعربى للوحدة العربية كأمل قومى أمام ما يواجه الوطن العربى من تحديات، ومن قصائده تلك قصيدة: «راية العرب» ويقول فيها: 

 «عجبى على راية العرب فى الريح فى الأرض ثابتة وفى السما تفاريح والنجمتين الخضر بيبصوا لنا وبيقولوا لنا بكل عربى فصيح 

الوحدة الوحدة الوحدة 

 مجد العرب فى الوحدة» 

مواهب فذة 

 مواهب صلاح جاهين العديدة لم تقتصر على كتابة الشعر والأغنيات وإنما شملت أيضا موهبته الفذة فى رسم الكاريكاتير، وقد عمل شاعرنا رئيسا لتحرير مجلة صباح الخير، كما رسم الكاريكاتير فيها وعلى صفحات جريدة «الأهرام»، كما كتب سيناريو العديد من الأفلام مثل فيلم «خلى بالك من زوزو»، وفيلم «أميرة حبى أنا»، و«شفيقة ومتولي»، و«المتوحشة» كما قام بالتمثل فى بعض الأفلام منها «لا وقت للحب» عام 1963، و«اللص والكلاب» عام 1962 عن رواية لنجيب محفوظ. 

شوادر وبنادر ومقاهٍ 

 كما قدم صلاح جاهين أعمالا فنية مهمة فكتب الصورة الغنائية، ومنها:

«الليلة الكبيرة»، و«المكن»، وقد تعلقنا جميعا بشخصيات «الليلة الكبيرة» التى صورت عالم المولد الشعبى، وأغنيات الباعة الجوالين كما صورت عوالم القهوجية، والمصوراتية، والمنشدين، ولاعبى البخت، والغوازى، والشوادر والبنادر، وزحام المولد فى صور غنائية طريفة وناطقة بلغة الوعى الشعبى الجمعى كما وصف عالم السرك بما فيه من تنوع وطرافة  بأسلوب غنائى يزدان  بموتيفات شعبية وحكايات مشوقة لا تزال تخايلنا: «الليلة الليلة السرك تعالوا دى فرجة تساوى جنيه / قولوا هيه بمناسبة  هذا المولد يوجد برنامج سواريه قولوا هيه فى السرك شجيع يهجم على السبع ويركب عليه/ قولوا هيه/   وبنات قمرات زى الشربات حلوين مش عارف ليه قولوا هيه وكمان بلياتشو تعا اسمعوا نتشه وشوفوا هيعمل إيه». 

فإذا دخلت مقهى فتذكر تحية المنشد «مسا التماسى  مسا التماسى يا ورد قاعد على الكراسى / هات شاى يا دقدق عينى وراسي» 

وإذا استهواك الطرب، وأخبار الغزل والغرام فتغن مع الريس حنتيرة: 

يا غزال يا غزال 

العشق حلال 

دوبتنى دوب 

خلتنى خيال 

يا شفتك فص فراولة

وأنا لا قوة لا حوله 

شقلبتلى عقلى علاولة

يا غزال يا غزال 

.. فهل ابتسمت وأنت تتذكر الأسطى «عمارة» من درب «شكمبة»؟

 

 

 

وتعاطفت مع الريس «حنتيرة» وهو ينشد «يا رب يا عالم بالحال / تهدى حبيبى ويصبح عال».

وتهاديت مع «مسعد» وهو يخرج مع صاحبه من مقهى إلى مقهى لا يملكان حق الشاى فيتجهان إلى شاعر الترماي!..، وفى آذانهما صوت راقص مغو، عذب يخايلها: 

هوا العصارى.. يا واد / على سطح دارى.. يا واد.. خدنى ورمانى عليك / ولا أنت داري». 

وإذا أهلت عليك هذه الشخصيات جميعا ذات ليلة فتذكر هذا الشاب صلاح جاهين الذى يصف نفسه فيقول: 

أنا شاب لكن عمرى ولا ألف عام وحيد ولكن خوفى منى أنا أخرس ولكن قلبى مليان كلام.. عجبي». وآمن معه بالحياة، والحب، وعش مفعما بالأمل، محتفلا بكل جمال.. وغن معه لأيامنا الحلوة:

أحب أعيش ولو أعيش فى الغابات أصحى كما ولدتنى أمى وأبات

طائر.. حوان.. حشرة.. 

بشر.. بس أعيش 

محلا الحياة.. حتى فى هيئة بنات..