
شعبان ناجي
من دفاتر هؤلاء
موسى صبرى الأستاذ الذى تعلَّم الصحافة من «عجلاتى»!
كان الأب يحلم لابنه بأن يلتحق بكلية الحقوق ليصير محاميًا كبيرًا أو قاضيًا له وزنه وسُلطته ويُشار إليه بالبنان، وتلك كانت «موضة» هذا العصر، فالحقوق هى التى تُخرّج الساسة والوزراء وكبار رجالات الدولة.. وبالفعل تخرّج الابن فى كلية الحقوق فى العام 1943 وأراد أن يلبس روب المحاماة المقدس، يروح ويجىء داخل أروقة المحاكم وساحاتها فتتطلع إليه الأنظار ويتساءل أصحابها فى ذهول المشوب بالإعجاب: مَن يكون هذا المحامى الوسيم؟ لكن نقابة المحامين كان لها رأى آخر، فقد وقفت أمامه حجر عثرة؛ فسِنّه غير مناسبة للقيد، واللوائح لا تسمح يا سيدى الفاضل (بصوت رأفت فهيم).. وكانت تلك هى المشكلة العويصة نفسها التى صدمت بلدياته ورفيق دربه أحمد بهاء الدين.
ولم يجد موسى صبرى (1925 - 1992) بُدًا من الانعزال فى بيته بأسيوط، محاولاً أن يأخذ هدنة قليلة ليفكر فى الخطة المُحكمة التى سوف يضعها لمستقبله الذى يراه غائمًا عائمًا. ولم يمر وقت طويل حتى يجىء إليه الفرج والفرح فيتم تعيينه بالنيابة العامة بعد وساطة من عميد الأدب العربى د. طه حسين عند وزير العدل شخصيًا؛ لكنه لم يكد يضع قدمه عند أول درجة فى السلم الوظيفى الطويل إلاّ ويتم اعتقاله مع مجموعة من الشباب من ذوى الفكر المُعارض.
ورغم تجربة الاعتقال المريرة التى واجهته شابًا صغيرًا يحب الحياة ويقبل عليها، كان حظه من السماء كما يقولون، ذلك لأنه التقى فى المعتقل بمهندس الصحافة العظيم «جلال الدين الحمامصى» الذى أعطاه أول درس قاسٍ من دروس صاحبة الجلالة، وهو أن يعتمد على نفسه وأن يشق طريقه بمفرده وبذراعه فى عالم السلطة الرابعة؛ حتى إن الحمامصى رفض إلحاقه بمجلة «الكتلة» التى تولى إدارتها بعد الخروج من المعتقل.
لكن درس الحمامصى كان قد سبقه درس آخر ربما صار هو مفتاح «صبرى» الذهبى وعصاته السحرية للدخول إلى بلاط صاحبة الجلالة.. الطريف أن هذا الدرس لم يحصل عليه من أستاذ فى الصحافة ولا من أديب ولا حتى من مثقف عام، ولكن حصل عليه من «العَجلاتى» الذى كان يفتح محلاً صغيرًا تحت بيتهم بأسيوط.

وقد كانت على رأس هوايات ذلك «العَجلاتى» شراء الصحف كل يوم وقراءتها بتفصيل دقيق مع الاهتمام بمعرفة كل أسماء المحررين ممن يكتبون الأخبار والتحقيقات والتقارير والأعمدة الثابتة وغيرها، وهو الأمر الذى لفت نظر الشاب موسى صبرى، فبدأ هوى الصحافة يهب صهدًا على وجهه، ثم يتسرب رويدًا رويدًا إلى قلبه الحامى الذى تمور فيه كل المشاعر البشرية.
هنا راح الفتى يقلد «العَجلاتى»، فيشترى الصحف والمجلات ويقضى جُل نهاره وأطرافًا من ليله فى مطالعة كل كلمة مكتوبة وكل كلمة غير مكتوبة، وصار هو الآخر يحفظ أسماء كتّابها ومحرريها ويستطيع أن يُفرّق بين الخبر والتحقيق والعمود الصحفى، فتجمعت لديه خبرة لا بأس بها، وشعر بأن ثمّة شيئًا بداخله يريد أن يتحرك، وعَنّ له أن هذا الشىء يريد أن يقفز خارج نفسه ليعبر عن مكنوناته وما يفور بداخلها من خواطر وأفكار ورؤى.
ولمَّا كان «الحمامصى» قد صدمه تلك الصدمة القاسية برفض تعيينه بـ«الكتلة»، لم يضع موسى كفّه على خده؛ بل انطلق باحثا ومنقبًا فى كل الشوارع والأزقة الصحفية كى يضع قدميه فى مكان مكين أمين، وقد كان درس الحمامصى مستنفرًا له فى ذلك، بينما كان درس العَجلاتى الموهوب محفزًا وفاتحًا له أبوابًا من الأمل كان لزامًا عليه أن يهرول باتجاهها دون أن يُفوّت الفرصة التى قد تكون سانحة.
وبعد وقت لا نعرف إن كان قد طال أو قصر، وجهد لا نَقْدر أن نُقدّر مقداره.. يقبض موسى على فرصة للعمل بمجلة اسمها «بلادى».. وبدأ قلمه السريع يخط أول موضوع صحفى، وكان الموضوع عن رائدة التعليم «نبوية موسى» التى كان مشوارها التعليمى يسبق مشوار العميد طه حسين بسنوات ثلاث؛ حيث كانت أول فتاة تحصل على شهادة البكالوريا.
وكتب صبرى موضوعه فى 12 صفحة وسلمه إلى رجل الديسك الصحفى الكبير محمد نجيب الذى قام باختصاره إلى صفحة واحدة أعجبت صبرى أيّما إعجاب، وكان ذلك هو الدرس الثالث فى الصحافة بصفة عامة، وكان أول درس عملى وضعه فعليًا على المحك الصحفى.
واستوعب صبرى هذه الدروس الثلاثة، فطواها فى صدره ووعاها بعقله وتشرّبها بكل جوارحه فتسير معه حيث استقلت ركائبه وتنزل إذ ينزل، كما يقول صاحبنا الفقيه الظاهرى الألمعى ابن حزم الأندلسى.. فانطلق مفتوح الصدر نحو معشوقته الصحافة غير خائف ولا هيّاب ولا وَجِل، فقد تأكد لديه أنه جرْمٌ صغير انطوى بداخله ذلك العالمُ الأكبرُ.
وبعد سنوات من العمل والدرس التحصيل.. يرتفع صيته وترفرف رايته وتشخص إليه القلوب والأبصار، وتناديه الصحف ويناديه أصحابها يطلبونه كاتبًا ومحررًا ومشرفًا. وقد كان أول هؤلاء المنادين هو أستاذه الحمامصى نفسه الذى ألحقه سكرتيرًا لتحرير مجلة «الأسبوع» التى صدرت فى عام 1946.
ويكشف «موسى» عن كواليس تعيينه بالأسبوع؛ حيث كانت إدارتها قد أعلنت عن مسابقة فى القصة القصيرة وقرّرت أن يحصل الفائز على مبلغ خمسة جنيهات، فاهتبل صبرى الفرصة واشترك فى المسابقة بقصة وقّعها باسم مستعار، وكانت النتيجة فوزه بالمركز الأول.. وحينما ذهب لاستلام جائزته تفاجأ الحمامصى به وسُرّ كثيرًا بهذه المفاجأة فكان أن عَيّنه بالأسبوع.
ولكن مقامه لم يطل فى الأسبوع، فبعد ثلاثة شهور انتقل مع أستاذه الحمامصى إلى صحيفة «الزمان» ذات السياسة المحايدة غير المنطوية تحت لواء الحزبية أو المذهبية، لكن بعد عام واحد أو يزيد قليلاً أراد «إدجار جلاد» صاحب «الزمان» أن يغيّر سياسات صحيفته بعد تولى حكومة الوفد التى أراد أن يغازلها ويخطب وُدّها ويخطب فوق منابرها، فما كان من الحمامصى إلاّ أن هجر «الزمان» ومعه موسى وصار فى ركابهما عدد آخر من الصحفيين، لكن فى العام 1950 يصبح موسى صبرى محررًا برلمانيًا بأخبار اليوم، ثم يتدرج فى المناصب فيصبح نائبًا لرئيس التحرير، بعدها يتولى رئاسة تحرير الجمهورية ثم الأخبار.

فى مسيرته الصحفية، يعتز موسى صبرى بعدة أعمال صحفية، لكن كان هناك عملان يضعهما على قائمة أهم أعماله، الأول: الحوار الذى أجراه مع الزعيم الإيرانى صفواى الذى كان قد هرب إلى الجبل بعد الحكم عليه بالإعدام؛ حيث تتبعه موسى فى شعاب الجبل وتوصل إلى مخبئه.. وأمّا العمل الثانى فيتمثل فى ذلك السبق الصحفى لكشف فضيحة بعض قيادات حكومة الوفد التى قامت عام 1950 بتوزيع كل أراضى منطقة «مريوط» على الأقارب والحبايب والمحاسيب وآخرين.
لصبرى موسى عدة مؤلفات مهمة، سواء فى الصحافة أو فى الأدب، نذكر منها أولى مجموعاته القصصية «حبيبى اسمه الحب» وكتابه الوثائقى المهم «وثائق حرب أكتوبر»، بالإضافة إلى «اعترافات كيسنجر» و«عشاق صاحبة الجلالة» و«وثائق 15 مايو».. أمّا الكتاب الذى كان يعتز به كثيرًا فهو «ملك وأربع وزارات»، والذى كشف فيه كيف تم بيع وزارة نجيب الهلالى بمبلغ مليون جنيه دفعها عبود باشا للملك فاروق.. وكيف تعطل المرسوم الخاص بوزارة حسين سرّى أكثر من أربعة أيام لأن جلالة الملك كان مشغولاً «لشوشته» على مائدة القمار، كما كشف عن طرفة سياسية مضحكة تقول إن على ماهر قام بتأليف وزارته داخل سيارة إسعاف!
إن موسى صبرى هو ذاك الصحفى والإنسان الذى حار فيه الجميع؛ لأنه يخاصم أصحابه أكثر مما يخاصم أعداءه.. وهو الصحفى الذى تجده فى كل مكان وبه رائحة خبر أو تحقيق أو قضية صحفية.