وكأن صوته يوم عيد إسماعيل دياب الإنسان حين يصبح فنانًا

كتب: أحمد رزق
تعرّفتُ على أروقتها فى بدايات العمر وتحسّستُ أبوابَها فى أوائل مرحلة الشباب وأسعفنى القدَر فتعرفت على فنانيها الكبار فى سنينى الأولى وجالستهم وكنت كالمريد بينهم ينصت لشيوخه ليقتطف منهم فصوصًا من الفن والمحبة والأشواق، وكنت محظوظا بالقرب من بعضهم فكانوا كالنجوم أهتدى بأنوار أرواحهم.
فهذا الفنان صاحب الوجه الوقور «هبة عنايت» يشرح لأحد تلاميذه خطوات تلوين اللوحات ليتعلم بلغة خفية كيف يبنى حياة ولوحة، فكلتاهما تحتاج لأساس قوى سليم، ولعشقه للطبيعة ينقل لتلاميذه حب التصوير الفوتوغرافى وقنص اللحظة وتأمُّل جمالها.. أمّا الفنان الكبير «إبراهيم عبدالملاك» فكان الدليل الأول للعمل الفنى الصحفى ومنها الاستجابة الفورية لتعليمات المدير الفنى- وقتها كان الفنان القدير محمد بغدادى المدير الفنى- وتوجيهات فنية خاصة بقوة الخطوط ووضوحها لضمان أقصى جودة للطباعة والالتزام بتسليم العمل فى الوقت المحدّد له- تشرفتُ بعد عقود من الزّمَن أن أكون المسئول الفنى للمطبوعة، وتأثرت بخطوط فنان كبير صاحب بصمة فريدة ومميزة الفنان العظيم «مأمون».. وسعدتُ بمشاكسة فنان كبير بقلب طفل السخرية فى الحياة كالسخرية فى رسومه فنان الكاريكاتير «عبدالحليم المصرى». عرفت هؤلاء وغيرَهم فى مَدرسة كبيرة.. إنها «صباح الخير» يا سادة.. وهى لو تعلمون مدرسة امتد تأثيرها الفنى ليشمل وطنًا بأكمله عبر عقود طويلة ممتدة.

يبقى فنان كبير لم يكن بالنسبة لى واحدًا من أساتذة الفن فى هذه المَدرسة الكبيرة فقط، بل كان ولا يزال- أطال الله عمره- الامتدادَ الأبوىّ بكل ما تحمله النفس من ذكريات.. الفنان الكبير قامة ومقامًا «إسماعيل دياب» الذى تعرفتُ عليه فى سنواتى الأولى؛ فقد كان صديقًا لأبى- رحمه الله- تعرفتُ عليه أولاً من صوته الشجى الممتلئ بصدق المحبة عبر صوته فى الهاتف المنزلى- لم يتم اختراع الموبايل وقتها- ليأتى صوته فى الساعات الأولى من صباح أول أيام الأعياد ليكون أول من يلقى التهنئة وأكون أسرع من يتلقاها «كل سنة وأنت طيب يا حبيبى»، فكان صوته ولا يزال كأنه يوم عيد تلقاه بفرحة ليملأ حياتك رونقًا وبهجة ممتدة موصول ذكراها عبر السنين.
حفر صوته فى الذاكرة لألتقى به بعد سنوات عديدة لتكتمل الصورة لأجد أمامى إنسانًا راقيًا بِسَمْتٍ وقور شامخ ممزوج بالمَحبة والألفة لكل من يلقاه.. ويتم نسيج المحبة بسؤاله الدائم فهو الوالد الذى يرعى أبناءه القريب منهم أو المنشغل بأمور الحياة يَطمئن عليهم ويتفقّد أحوالهم.
رسومُه ليست غريبة عن شخصه؛ بل تتضح الرؤية بعمق الأفكار وبقوة الخطوط ببساطة وليونة ناعمة والتى دائمًا ما يبقى وراءها قضية ورؤية إنسانية أو اجتماعية أو وطنية تنشد الحرية والسلام للجميع- ذكر لى يومًا عن رفضه لتولى منصب رئيس مجلس إدارة إحدى المؤسّسات الصحفية، فهو المؤمن بالحرية كيف يتولى مسئولية مؤسّسة تحكمها اللوائح والقوانين!.
الفنان «إسماعيل دياب» المرتبط بمصريته الفخور بها حتى فى سنوات الغربة وفترة عمله بالخارج فى ثمانينيات القرن الماضى نقل معه، ولا عجب فهذا سِرٌّ من أسراره، نقل معه «الطبلية البلدى»، التى أخذها معه بغرض واحد هو رسم لوحاته وهو جالس إليها وبجانبه الراديو ومؤشره المتجه دومًا إلى إذاعة «صوت العرب» من القاهرة، وهذه طقوسه فى الغربة التى يستحيل الإبداع دونها.
أمّا سَفره والغربة فلها قصة، فرغم عروض العمل الكثيرة بالخارج التى تحمل إغراءات مادية؛ فإنه اختار أقلها لا لشىء إلاّ أن يكون قريبًا لبيت الله الحرام. ولا غرابة فى ذلك فهو ابن البلد المتأصلة جذوره بحى السيدة زينب بكل تفاصيله، الذى عاش معظم حياته فيه بتدَيُّن المصرى البسيط.
عمِّى «إسماعيل دياب» -كما أحب أن ألقبه- وصاياه لى عديدة، لكن أسماها معنًى هى «خللى بالك من أخوك أحمد دياب»، لقد اعتبرنى أخًا لأبنائه، خاصة ابنه فنان الكاريكاتير المعروف، كأننا حبات فى مسبحة لا يريد لها أن تنفرط، «أحمد دياب» الذى كان يتابعه طفلاً بسعادة بالغة حين يختلس منه الرسوم ليملأ ما بين خطوطها ألوانًا طفولية ليعود إلى رسمها من جديد فلا ضير من ذلك فهناك فنان قادم للمستقبل.
جاءت احتفالية تكريم الفنان الكبير «إسماعيل دياب» تأكيدًا على محبة الفنان الإنسان، فكان الحضور كثيفًا من أهل الصحافة والفن والأصدقاء والأحبّة تعبيرًا عن مدَى التقدير ومكانته فى قلوبهم.

صاحب الاحتفالية مَعرضٌ استيعادىٌ للفنان دعا إليه «جمعية مُحبى فن الكاريكاتير» بإشراف ورعاية مكتبة الإسكندرية تعظيمًا لدوره وإسهاماته العديدة فى الفن والصحافة ورسومه التى كان لها أثر ممتد فى نفوس عشاق هذا الفن على امتداد الوطن العربى، فهو واحدٌ من فرسان فن الكاريكاتير وأحدُ رُوّاده فى مَدرسة «روزاليوسف» العريقة وعبر صفحات وأغلفة مجلتىّ «روزاليوسف» و«صباح الخير» تزينت أوراقهما برسومه التى عبّرت عن أحوال الشارع المصرى بجوانبه المتعددة وهمّه الأكبر الإنسان البسيط، فعبّرت ريشته عن أحلام البسطاء وبؤس المهمشين، فكانت شخصية «عبدالماضى» تعبيرًا عن الفوارق المجتمعية والأحلام المشروعة للمواطن العادى.. كان لافتًا فى لوحات المَعرض اهتمامه بقضايا الوطن القومية فجاءت رسومه عن مأساة فلسطين مشاركة للمشاعر العربية.. أمّا القارة الإفريقية وصراعها مع الاستعمار الأجنبى فكان له نصيب كبير من فنه وتعبيره عن استغلال خيراتها.
الاحتفاء بالفنان الكبير «إسماعيل دياب» فى «بيت السنارى» هذا المكان العريق الذى يليق بفنان عظيم.. بعراقته والموجود بنفس المكان القديم الذى يعشقه الفنان بالسيدة زينب لتتحول الاحتفالية إلى صورة مكتملة للمَحبة والأصالة.
امتدت الأمسية بجلسة فنية جمع خيوطها الفنان بحديث ذى شجون من مُحبيه عن ذكرياتهم بالإنسان والفنان.. اللافت بالأمسية الرائعة الحضور الكبير لفنانى الكاريكاتير الشباب الذين جاءوا تقديرًا واحترامًا لأحد رواد هذا الفن العظيم.
أجمل وأروع ما فى الاحتفالية أنى خرجت منها وأنا على عِلم ويقين بأنّ لى فى الفن والحياة آباءً عظامًا.