السبت 19 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
محمد التابعى.. موظف «التومين» وصاحب الكرافتات الشيك!

من دفاتر هؤلاء

محمد التابعى.. موظف «التومين» وصاحب الكرافتات الشيك!

الناس الطيبون فى مدينة السويس الباسلة طاروا من الفرح؛ فهللوا وكبروا ورقصوا وبدروا الحلاوة الطوفى، وذلك عندما وصل إلى أسماعهم ذلك الخبر الحلو.



والخبر الحلو مفاده يا سادة يا كرام أن هناك فرقة مسرحية كبيرة مكونة من ممثلين ومطربين ومعهم جماعة من الكتّاب والألاتية والطبّالين والصّييتة والصحفيين (بضم الصّاد وتشديدها جامد) سوف تطبّ على مدينة السويس لتقدم بعضًا من رواياتها المسرحية وعروضها الفنية.. فراحت كل بيوت السويس تستعد لهذا الحدث الجلل المهيب.

 

ولأن الزمن وقتها كان عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى بشهور قليلة، فقد كانت الدنيا واقفة والعيشة قطران؛ لذا فقد بدأ كل مواطن سويسى يحاول مستميتًا أن يلبّس طاقية هذه فى طاقية تلك كى يتسنى له أن يشترى حتة قماش «سكروتة» زفرة ويفصّلها عند «رمضان» الخيّاط ليحضر بها هذا الحفل الاستعراضى الكبير.

مواطن واحد شاب فقط من بين أهالى السويس يعمل مستخدمًا فى إدارة (التومين) لم ينشغل مخه بالحرب المنتهية أو بالعيشة القطران أو بحتة القماش السكروتة الزفرة، ذلك أن مخه رُفيّع (بضم الراء وتشديد الياء) ونبيه ومجنون بالفن، فكان مشغولًا فقط بالتركيز فى متابعة ما سوف تقدمه تلك الفرقة «المصراوية» من روايات، وكيفية تدوين آرائه حيالها.. ويا سلام لو أعجبت هذه الآراء أصحاب الفرقة، فدخلوا معه فى دردشة على الواسع، ثم قام رئيس الفرقة المفدّى فربّت على كتفه قائلًا له بمعلمة: «أنت مكانك مش هنا يا ابنى.. أنت ضرورى تنزل مصر».

ولم يكذّب موظف (التومين) خبرًا ولا مقالًا. ومن دون أن يفكر أو يهرش فى رأسه رمى بدفتر «التومين» على طول ذراعه، وقرر على الفور أن يطير إلى مصر على جناح هذه الفرقة الجهنمية وليحدث ما يحدث. وأول ما نزل القاهرة اصطدم بحالة من الفوران ففار معها، ووجد الثورة تثور فألقى بنفسه فى أتونها، ثم راح يهتف عاليًا مع أصحابها الأشاوس «عاش الهلال مع الصليب.. يحيا سعد ويسقط الاحتلال».

ومنذ هذه اللحظة الحرجة من عمر الوطن، قرر المواطن محمد التابعى محمد وهبة المولود عام 1896 - سجل مدنى: بندر السويس (الويكيبديا المجنونة تقول إنه من مواليد بورسعيد)، أن يكون من أصحاب الكلمة المسموعة فى هذا البلد الأمين، ولكن لكى تكون له كلمة مسموعة يجب أولًا أن تكون له كلمة مقروءة، والكلمة المقروءة موجودة فى الجرانين وفى الكتب؛ والجرانين والكتب تنطوى تحت مؤسسات، والمؤسسات تحتاج إلى علم وشهادات، لذا فعليه بعد إمساكه بشهادة الحقوق أن يعمل جورنالجيًا فى جريدة كبيرة لها صيتها واسمها وسلطتها، ولا توجد من بين الجرائد المصرية من تتمتع بكل تلك الصفات إلا خالدة الذكر جريدة الأهرام، فما كان منه إلا أن التحق بها محررًا يوقع مقالاته باسم «حندس».. ولأنه مجنون بالطرب والتشخيص فقد التحق فى الوقت نفسه محررًا بمجلة المسرح ليتابع ويتفرج (ببلاش) على كل العروض التى كانت تعرض فى مسارح القاهرة والإسكندرية آنذاك.

وانفتحت الدنيا عن آخرها قدّام صاحبنا التابعى، فقد كان بمثابة مبعوث العناية الإلهية الذى جاء ليكون دمًا جديدًا فى الصحافة المصرية، فاستحدث فيها كل جديد، من حيث الأفكار والأسلوب والعرض والشكل والإخراج والتوزيع ونوع الخط والكاريكاتير وخامة الورق.. غيّر كل شيء، فتغيّر معه كل شىء.

وأهم شيء تغيّر هو فكر القارئ الذى كان فى ذاك المناخ يبحث عن التغيير بإبرة؛ لذا فقد كان هذا القارئ الحصيف يتنقل مع صاحبه التابعى متتبعًا كتاباته عبر كل تنقلاته الصحفية.. فى «آخر ساعة» التى أنشأها، وفى العريقة «روزاليوسف» التى أسهم فى قيامها، وفى «المصرى» التى شارك فيها اثنين من زملائه هما: محمود أبو الفتوح، وكريم ثابت.

ولأن التابعى كان (من يومه) نزيهًا وابن ناس، ويحب الأناقة والشياكة ويختار لون البدل الذى يتماشى مع لون القمصان والأحذية والجوارب والمناديل، وله عناية خاصة بالكرافتات: السادة منها والمقلّم وما بين بين، وهو فوق كل هذا وذاك صحفى موهوب وقلمه حلو ولسانه أحلى، فقد وقعت فى غرامه الكثير من الحسناوات الشقراء منهن والسمراء كان على رأسهن المطربة أسمهان التى كان له معها قصة حب ملتهبة لم تتوج بالزواج أو الطلاق (اقرأ كتاب أسرار أسمهان.. تأليف شريفة زهور).

كما أتيح له أيضًا أن يقترب من كبار رجال الدولة من سياسيين وفنانين ورجال أعمال ووزراء وإقطاعيين وجزارين، حتى إنه كان يرافق الأسرة الملكية فى رحلاتها إلى أوروبا، كما كان أيضًا صديقًا شخصيًا للداهية الذكى المعصعص أحمد حسنين باشا رئيس ديوان الملك فاروق، وهو شاهد عيان على القصة الغرامية النارية بينه وبين الملكة المتصابية «نازلى» أم فاروق، والتى انتهت بزواج غامض وعبثى، كشف التابعى حقيقته فى خبر صحفى يؤكد فيه أن حسنين ونازلى قاما بضرب ورقتين عرفى، وأن الشاهد الأول «على الضرب» كان الممثل سليمان بك نجيب مدير دار الأوبرا فى ذلك الوقت والأوان.

 

 

 

ومن يريد أن يستفيض فى ذلك ويتسلطن فليرجع إلى الأوراق المجهولة لمحمد التابعى التى نشرت أجزاء منها عام 2000بمجلة وجهات نظر المحترمة.

من أبرز سمات التابعى تشبثه بكبريائه بوجه عام وتشبثه أكثر بكبرياء الصحفى على وجه الخصوص، فيقال إنه لم يكن يلهث خلف مصادره، وإنما كانت مصادره هى التى تأتى إليه طيعة هينة، لا لأنه كان يمسك على أصحابها ذله أو كمبيالات.. أو سيديهات (لم تكن قد ظهرت)، ولكن كان كله يتم بالحب والاحترام والقلب الأبيض الذى مثل البفتة «الصفراء».

ومن الأمثلة الناصعة والأدلة الدامغة على احترامه لذاته الصحفية والحفاظ على كبريائها، أنه قبل حادث 4 فبراير نما إلى علمه أن السراى لديها رغبة عارمة ومجنونة جدًا فى تحسين علاقتها (البايظة) بحزب الوفد صاحب الشعار المرعب «الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة».

ولأجل هذا «التحسين» فقد ذهب «حسنين» إلى التابعى كى يتحسس ما يحدث طالبًا منه أن يتوسط لدى النحاس باشا لكى يطلب – أى النحاس نفسه- الإذن بمقابلة جلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان.

إلا أن التابعى (الفاهم فى ألاعيب المسرح السويسى والسياسى) رفض أن يكون شريكًا فى هذا الخبل، فأرسل مندوبًا عنه إلى النحاس باشا، وهو مكرم عبيد باشا ومن يحب أن يعرف القصة بحذافيرها ويحب معها أن يعرف من هو النحاس ومن هو مكرم عبيد، وما الذى حدث يوم 4 فبراير، فليطالع كتاب التابعى «من أسرارالساسة والسياسة».

ومن الأمثلة أيضًا على اعتزازه بذاته، أن رجله لم تكن تجرى نهائيًا (بضم النون كما ينطقها حلاوة بيه العنتبلى) نحو حفلات السادة الكبار، بل إن السادة الكبار هم من كانوا يجيئون إلى حفلات عيد ميلاده وفى يد كل منهم هدية معتبرة لا تقدم إلا للأمراء وأصحاب الوجاهة والرياسة.. كما يقال أيضًا (والعهدة ليست على أحد) أن التابعى كان حريصًا على قضاء الصيف فى أوروبا، وكان ينزل فى أفخم الفنادق التى كان ينزل بها الملوك والرؤساء، ولم يكن يفعل ذلك عن بهرجة أو فخفخة أو سعة فى المال، وإنما ليرسم الصورة المثالية التى يجب أن يكون عليها الصحفى المحترم فى نظر الخاصة والعامة على حد سواء. 

خاض التابعى تجربة السجن، وذلك فى القضية السياسية المعروفة بقضية «الحصاينة» والتى اتهم فيها مأمور مركز السنبلاوين التابع لمديرية الدقهلية بتزوير محضر رسمى حرره ضد أفراد أسرة صقر.

 

 

 

قامت الدنيا ولم تقعد ولم تنم واهتز كرسى الحكم تحت إسماعيل صدقى.. وقد ذكر التابعى فى روايته أن مصدره هو محمود فهمى النقراشى الذى ظل يبحث عن التابعى من طلعة الشمس حتى يروى له كل التفاصيل المملة جدًا لهذا الخبر، حتى عثر عليه قبيل مغيب قرص الشمس فى النادى السعدى وكان يجلس وهو آخر روقان يشرب البرتقال ويلعب عشرتين طاولة مع سعادة حفنى الطرزى باشا.

فى النهاية محمد التابعى الذى غادر دنيانا عام 1976 كان جامعة صحفية كبيرة، تخرج فيها ألمع رجالات الصحافة المصرية من أمثال حسنين هيكل، ولويس جريس، وموسى صبرى، وإحسان عبد القدوس، والأخوين أمين.. وغيرهم الكثير والكثير.