د.ريهام عرام
أعياد الميلاد المجيد
فى عالم ملىء بالموروثات والتقاليد، تبرز أعياد الميلاد المجيد كواحدة من أكثر المناسبات احتفالًا وانتشارًا حول العالم، حيث تُرمز إلى ميلاد المسيح عيسى عليه السلام وتُعتبر مناسبة تجمع بين الروحانية والفرح. ولكن ما قد يجهله البعض هو أن هذه الاحتفالات تحمل فى طياتها أصولًا مصرية قديمة، حيث تتداخل الثقافات والرموز التى نشأت فى وادى النيل مع تقاليد الميلاد التى نعرفها اليوم.
فى مصر القديمة، كانت الولادة حدثًا مقدسًا حيث كانت رمزًا للحياة المتجددة والبعث والخلود، وهى فكرة مركزية فى المعتقدات المصرية القديمة، ظهرت فى اعتقاد المصرى القديم بميلاد الشمس يوميًا من رحم السماء كما صورها ورسمها المصرى على أسقف المعابد والمقابر قديمًا على هيئة قرص تبتلعه السماء وتعيد ولادته يوميًا فى الشروق. كما استغل المصرى القديم مفهوم الولادة للترويج للحاكم أو الملك كمولود ذى صفة إلهية، فقد أبرزت المعابد المصرية القديمة مثل معبد الأقصر مَشاهد يظهر فيها الملوك وهم يتباهون بأصولهم الإلهية المقدسة مثل الملكة حتشبسوت، وفى ذلك تأكيد على شرعيتها واستقطاب للمريدين من المصريين ليتبعوا لأول مرّة امرأة على عرش مصر. ثم يرث ملوك البطالمة ذلك التقليد فلا يكاد يخلو معبد مصرى من عصر البطالمة من مبنى صغير ملحق بالمعبد اصطلح على تسميته «كشك الولادة» أو «الماميزى» كما سَمّاه علماء المصريات، خصّصت جدران هذا المبنى لتفاخر الملك البطلمى بأصوله المصرية التى باركتها المعبودات المصرية القديمة. وربما كان لاستقرار هذه الفكرة فى العقل الجمعى المصرى القديم دوره فى حُسن استقبال مصر لرحلة العائلة المقدسة وإيوائها وسرعة إيمان المصريين بالمسيحية وتفضيلها على الديانة الوثنية الرسمية للبلاد فى عصر الرومان. ولقد عانى المسيحيون الأوائل فى مصر من اضطهاد الرومان واحتملوا الكثير من الويلات ليكونوا من أوائل شعوب الأرض التى نصرت السيد المسيح عليه السلام ودعوته المباركة، ليضطر الأباطرة الرومان- بعد قرون من الإنكار والاضطهاد - بالاعتراف بالمسيحية كديانة فى البلاد لتصبح ببداية القرن الخامس الميلادى الديانة الرسمية للبلاد.
وقد مثّلت مصر مكانًا مُهمًا فى حياة المسيح عليه السلام والسيدة مريم العذراء ويوسف النجار، حيث لجأت العائلة المقدسة إليها هربًا من بطش الملك هيرودس، الذى أمر بقتل كل المواليد الذكور فجاءت العائلة المقدسة وفقًا للوحى الإلهى إلى مصر لتجد الأمن والأمان كما كان الحال دائمًا فى مصر التى كانت ملاذًا للأنبياء وأصبحت بذلك شاهدًا حيًا على جزء من القصة المقدسة، كما تحوّل كل ركن زارته العائلة المقدسة فى مصر إلى محطة من محطات الحج المسيحى، وقد ألهمت تلك المواقع المصريين للاحتفال بعيد الميلاد بروح خاصة تعبر عن المَحبة والتسامح: فمن كهف كنيسة أبو سرجة بمصر القديمة التى آوت المسيح رضيعًا وأمّه السيدة مريم إلى شجرة المطرية التى استظلت بظلها وحتى دير المُحَرّق فى أسيوط والذى استقرت فيه العائلة المقدسة لأطول فترة خلال تواجدها بمصر، نجد دائمًا ما يدل على ترحيب وحُسن استقبال مصر للسيد المسيح عليه السلام.
ومن هنا جاء الاهتمام بتسجيل رحلة العائلة المقدسة بمصر على قوائم التراث غير المادى باليونسكو عام 2022 حيث إنها تقليد موروث آمن به المصريون وأحسنوا استقباله وتناقلوه عبر الأجيال ليصبح جزءًا أصيلاً من عاداتها وتقاليدها واحتفالاتها.
تظل مصر اليوم واحدة من البلدان التى تحتفل بعيد الميلاد المجيد بروح تجمع بين الأصالة والتاريخ، حيث تبدأ الكنائس القبطية الاحتفالات بالصوم والصلاة، تزامنًا مع زخرفة الشوارع والمنازل.
بين ضوء الشموع الذى كان يضىء المعابد المصرية قديمًا وبين أضواء شجرة الميلاد اليوم، يبقى الاحتفال بميلاد النور والرجاء شاهدًا على عبقرية المصريين القدماء فى فهم الحياة. إن أعياد الميلاد المجيد، بجذورها المصرية العميقة، ليست مجرد مناسبة دينية، بل احتفال إنسانى عالمى بوحدة النور والفرح والأمل، وتجديد للاحتفاء بدور مصر كوطن للأمن والأمان منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا.