الكاريكاتير اختراع فرعونى!
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
اكتشفت هذه المعلومة التاريخية المدهشة مصادفة..
كنت فى زيارة لأحد المعابد المصرية القديمة، لإشباع هوايتى فى التواصل مع منجزات أول حضارة إنسانية من فنون وآداب وفلسفة وحكمة واختراع.. وأخلاق.
ولدَىّ دائمًا إحساس بأننا كمصريين لا نولى تاريخنا وحضارتنا وحتى آثارنا الاهتمام اللائق بها.. ربما بسبب شعورنا بأننا نعيش وسط هذه الآثار كل يوم ومع الوقت أصبحت من الأشياء العادية العابرة، فلم نعد نعيرها ما تستحق من عناية ودرس.. بينما نجد العالم يوليها اهتمامًا بلغ حد الولع.. واسألوا الإنجليز والفرنسيين والألمان والطليان.. وغيرهم كثير.
المهم أننى أتذكر الآن أن اهتمامى بإنجاز أجدادنا الذين يسميهم العالم «الفراعنة» قديم جدًا.. منذ كنت طالبًا فى أولى ثانوى سنة 1961.
فى هذه السنة كتبت بحثا صغيرًا فى مجلة الحائط فى مدرستى «السويس الثانوية» كان عنوانه «الصحافة اختراع فرعونى».. وهذا الموضوع هو سبب دخولى مجلة «صباح الخير»، فقد اختيرت مجلتى للاشتراك فى معرض الصحافة المدرسية الذى أقيم فى مبنى وزارة التربية والتعليم فى حى المنيرة وسافرت فى صحبة المشرف الاجتماعى ومعى المجلة إلى القاهرة للمشاركة فى المعرض.
وكان من حظى أن زار المعرض رئيس تحرير «صباح الخير» فتحى غانم، الذى جذب اهتمامه موضوعى فقرر نشره فى المجلة وطلب منّى نسخه ودعانى لزيارته فى المجلة فى اليوم التالى.. وهكذا دخلت «صباح الخير» وعمرى 16 سنة، ونشر مقالى باسمى فى العدد التالى.
لكنى فى مرحلة تالية اطلعت على مقال للدكتور طه حسين نشر سنة 1957 وقرأته بعد ذلك بأكثر من عشرين، يقول فيه «ويقال إن الرومان قد سبقوا إلى إنشاء الصحافة حين جعلوا فى بعض أطوار حياتهم ينشرون أنباء الأعمال اليومية لحكومتهم فى لوحات تعلق فى بعض الأماكن ويقروها الناس وربما نقلوا صورًا منها ليقرؤها حين يخلون إلى أنفسهم فى تمهل وتروٍّ ولتقرأها بعض السيدات اللاتى لا يستحببن السعى إلى حيث تعلق الأنباء.
وكان عجيبًا ألا يلتفت الدكتور طه حسين إلى بدايات ظهور ما نسميه الآن «صحافة» على أيدى المصريين القدماء.. مع أنه كان صحفيًا ورئيسًا لتحرير جريدة ناجحة ومزدهرة فى زمانها فى الثلاثينيات من القرن العشرين، هى «كوكب الشرق».
ولم يكن يكتفى بكتابة المقالات، بل يضع لمساته الصحفية التحريرية فى كثير من صفحات الجريدة.. كما روى واحد ممن عملوا تحت رئاسته.
نعود لحكاية الكاريكاتير اختراع فرعونى، فقد رصدت رسومًا تتعمد مسخ الأشخاص وكذلك تماثيل صغيرة تقوم على هذا المنهج الساخر الذى يمكننا اعتباره النواة الأولية لميلاد فن السخرية بالرسوم والمنحوتات الذى تطوّر وأصبح يسمى الآن ومنذ مئات قليلة من السنين: «كاريكاتير».
وطبعًا لا أدّعى لنفسى هذا الاكتشاف، فبالتأكيد أنه كان بشكل أو آخر، ضمن ما أشار إليه علماء آثار وباحثون فى علم المصريات، لكن الإشارة جاءت عابرة ربما.. وضمنية دون تركيز عليها بوصفها اكتشافًا ذا دلالة قوية على تمتع أجدادنا المصريين القدماء «الفراعنة» بروح الفكاهة والسخرية، بهدف التقويم والارتقاء بالوضع الإنسانى.
ومن هنا كان اهتمامى الخاص بهذا الأمر.. وعشقى لهذا الفن الراقى «الكاريكاتير».
ومع أننى لست رسام كاريكاتير، إلا أننى أعتبر نفسى محظوظا لكونى درست تاريخ وتطور هذا الفن وتابعت أعمال رواده الذين عايشت وزاملت كثيرين منهم فى «صباح الخير».
وأول عهدى بمطالعة رسوم الكاريكاتير كان فى سن صغيرة جدًا..السادسة أو السابعة، من خلال مجلة «البعكوكة» إلا أننى عندما كبرت قليلا كنت أطالع الصحف والمجلات وما فيها من كاريكاتير.. بداية من رسوم رخا وصاروخان وزهدى وطوغان وحتى الثورة التى فجّرها عبدالسميع لتطوير هذا الفن من مجرد مادة للتسلية والترفيه وإطلاق النكات الخفيفة المرسومة، إلى لغة فنية صحفية هدفها النقد والتعبيرعن الشعور العام والسخرية من الظواهر الاجتماعية البالية والضارة وأيضًا من المسئولين والسياسيين والمديرين وكشف عيوبهم ومظاهر فسادهم بهدف النهوض بالوطن وبالمجتمع وأيضًا بالإنسان الفرد.
جاهين زعيم مدرسة التجديد
وكان أبرز نجوم مرحلة الكاريكاتير الاجتماعى بعد ذلك صلاح جاهين، الذى كان زعيم مدرسة جديدة فى هذا الفن الرفيع ولدت مع ميلاد «صباح الخير».. وترتب على نجاحها الباهر أن أصبح لدينا جمهور كبير من المواطنين الواقعين فى غرام هذا الفن الذى يعبر عن الروح المصرية الأصيلة.
ونجح صلاح جاهين فى مفاجأة هذا الجمهور بلون جديد غير مسبوق..كاريكاتير من قلب حياتنا اليومية يقدمه لنا بريشة سلسة وروح حية متوهجة ومعايشة لأحوالى وأحوالك وتنطوى على وعى وثقافة وحب للمرح والبهجة والسخرية الذكية اللماحة.
كان صلاح جاهين أحد رؤساء التحرير الخمسة الذين عملت تحت رئاستهم منذ التحاقى بالعمل سنة 1964 وحتى هجرتى إلى لندن أواخر 1980وقد كنت بالطبع مبهورًا به كشخصية متعددة المواهب من الكاريكاتير إلى الشعر، إلى السيناريو فيما بعد.. وشىء آخر هو أنه كان إنسانًا مرحًا.. مريحًا لا يلعب دور الرئيس المتجهم بل يشعرك أنك فى فريق فنى وكل واحد له دور ولا حاجة للأسئلة الكثيرة، فكل واحد يعرف دوره الذى هو موهوب له!
ومن هنا لم أشعر به كرئيس تحرير.. لكننى عرفت أنه ثائر وفيلسوف ومصلح اجتماعى.
وبعض الدارسين يرى أن صلاح جاهين أسَّسَ مدرسته فى الكاريكاتير متأثرًا بروح وفن ومصرية جورج البهجورى ونوع رسوم حسن فؤاد التى ترى فيها حياتنا اليومية وشخصيات العامل والفلاح والناس الذين تعايشهم كل يوم.
شكل «جاهين» من هذين الاتجاهين خلطة خاصة به حقق بها هذا النجاح الرائد.. ولا ننسى أمرًا مُهمًا فى تسهيل ازدهار مدرسة «صباح الخير» فى الكاريكاتير، وهو أن حسن فؤاد كان يفرد بكرم مساحات وافرة من المجلة للكاريكاتير.
نأتى إلى جورج البهجورى وهو فنان متعدد المواهب، رسام كاريكاتير له مذاق خاص، ورؤية مصرية مميزة، وفنان تشكيلى يرسم لوحاته الزيتية ويقيم المعارض وأيضًا تتمتع لوحاته بروح مصرية مستمدة من الحارة والقرية.
وهو الفنان المصرى الوحيد الذى يعرض متحف «اللوفر» فى باريس إحدى لوحاته.. كما أن له لوحتين معروضتين فى مقهى «ريش»..
وقد أدهشتنى رسومه الكاريكاتيرية على جدران شقة الفنانة نادية لطفى فى جاردن سيتى.. ولا ننسى أنه أيضًا يتمتع بموهبة الكتابة عن نفسه مثل كتابه «بهجر فى المهجر» عن مغامرة الحياة فى باريس.. و«أيقونة الفن» عن نشأته وحياته وأعماله فى «صباح الخير».
هذا الفنان المدهش
أمّا حجازى، فحدّث عنه ولا حرج، فهو السهل الممتنع، وهو ابن البلد المصرى الذى تشعر أنك تشاهد وتستمتع برسوم ساخرة بسيطة وعميقة وكأنك أنت الذى رسمتها وليس هذا الفنان المدهش.. وقد انتقل إلى عالم الأطفال لفترة ثم عاد إلى «صباح الخير».
وأن تزامل هؤلاء الأساتذة العباقرة هو من حُسن الحظ ومن بركة دعاء الوالدين..
فماذا عن صلاح الليثى، الذى أدهشنى أسلوبه فى رسم لوحاته.. فهو يبدأ الرسم بالقلم الرصاص بخطوط شديدة الإيجاز والاختصار ثم يضع فوق الرسماية ورق زبدة شفاف ويشف ما رسمه بقلم الحبر الأسود الشينى، وتكون هذه هى النتيجة النهائية.
تجلس إليه وهو يعمل، تدردش وتتبادل الحديث فى أحوال الدنيا والناس وآخر الأخبار والظواهر.. وبعد قليل يبدأ المهندس الذى فى داخله فى العمل.. وفى النهاية يقدم لك مجموعة أعماله لعدد هذا الأسبوع.
أمّا «إيهاب»، فهو يعيش عالمًا خاصًا به، عالم طفولى، شقى، لماح، ولأنه يجمع بين مواهب الكاريكاتير والرسم الصحفى ورسوم الأطفال والرسوم المتحركة على أشرطة السينما، فهو يدمج كل هذا فى أعماله التى تتفرد بلمساته المميزة.
وهناك مبدع آخر هو علامة مميزة فى أعماله سواء فى فن الكاريكاتير أو فن تصميم الأغلفة والكتب والمطبوعات عمومًا.. أتحدث عن محيى الدين اللباد، الذى جمع بين الكاريكاتير ورسوم الأطفال، والكتابة البحثية النقدية لفنون الجرافيك المختلفة.
وناجى كامل، هو رسام كاريكاتير ونحات وعازف ناى، أمّا بهجت عثمان رسام الفراخ كما جرت شهرته، والرسام الذى يسارع كل الفنانين والفنانات لشراء «صباح الخير» ليعرفوا من كان محل سخريته منهم، فالحقيقة هى أننى لم أزامله، وإن كنت صادقته وكتبت عن زوجته فنانة العرائس رحمة بدر، والسبب أنه كان قد انتقل إلى دار الهلال قبل دخولى المجلة.
وأيضًا هناك الفنان الميال إلى الانطواء والعزلة ومواصلة العمل، «دياب».. أمّا الأجيال التالية فلها حديث آخر.
زهدى مؤرخ فن الكاريكاتير
وعندما نتحدث عن تاريخ الكاريكاتير لا بُدَّ أن نذكر فنانًا كان من أوائل رواد هذا الفن مع رخا وصاروخان وعبدالسميع وطوغان.
إنه «زهدى».. الذى درس فن النحت فى كلية الفنون الجميلة لكنه وجد نفسه يتجه إلى الرسوم الساخرة ويعمل فى الصحف لنشر هذا الفن الجديد.. عمل فى 27 جريدة ومجلة آخرها «صباح الخير» التى رسم لوحة غلاف عددها الأول.
ونعرف عن زهدى أنه كان حريصًا على التعبير الحر عن رأيه بالكاريكاتير ما جعله ضيفًا على كل معتقلات مصر منذ الثلاثينيات من القرن العشرين، ونعرف عنه أنه حوّل شقته الصغيرة إلى ندوة مفتوحة كل يوم يشارك فى مناقشاتها حشد كبير من الكُتّاب والصحفيين والرسامين.
والذى لا يعرفه كثيرون عن زهدى الذى كان من محاسن حظنا أن زاملناه فى «صباح الخير» أنه فنان الكاريكاتير الوحيد الذى لا يُوَقّع باسمه على أعماله، فاسمه هو طه العدوى، لكنه اختار اسمًا يعبر عن نهجه فى الحياة: زهدى.. من الزهد والتواضع اللذين كانا من معالم شخصيته المحبوبة.
وأطيل فى الحديث عن هذا الرائد لأنه أخذ على عاتقه مسئولية رصد تاريخ فن الكاريكاتير فى مصر وانكب على كتابة مخطوطات عديدة، ومن جهة أخرى كان قد وضع لنفسه هدفًا هو تجميع كل أصول أعمال فنانى الكاريكاتير على تعدد أجيالهم ومدارسهم الفنية والسياسية، وسعى لسنوات لإنشاء جمعية الكاريكاتير، إلى أن تحقق له هذا الهدف كما نادَى بإقامة متحف للكاريكاتير.. وهو ما لم يتحقق بَعد..
ولزهدى ريادة أخرى هى أنه أدخل الكاريكاتير والرسوم المتحركة إلى شاشة السينما من خلال تيترات فيلم (صغيرة على الحب).
وكان يضع اللمسات الأخيرة على كتابه «تاريخ الكاريكاتير المصرى» لكن وفاته حالت دون إتمام هذا الإنجاز المهم وبقت أصول ومخطوطات الكتاب فى بيته، فهل نجد لدى وزير الثقافة الجديد وهو فنان تشكيلى اهتمامًا بأن تعمل الهيئة المصرية للكتاب على نشر هذا الكتاب؟
وبمناسبة الحديث عن النشر، فإننى أتساءل دائمًا: لماذا لا تنشر لوحات الكاريكاتير فى كتب كما يحدث فى عالم الكاريكاتير الإنجليزى، فهم ينشرون أعمال كل فنان كل سَنة فى ألبومات جميلة يقبل عليها الجمهور ويحتفظ بها.. كما أن الصحف التى يعملون بها تنشر مع كل لوحة كاريكاتير على صفحاتها سطرًا يقول إن فى استطاعة القارئ الحصول على نسخة من هذه اللوحة مقابل مبلغ تحدده.
وفى الأسبوع المقبل نواصل