طارق مرسى
روعة أوبرا العتبة
فى الوقت الذى تنتشر فيه السرقات وتتطور فنون النحت والنقل والاقتباس من أعمال أخرى لا بد أن نرفع القبعة للمؤلف والمخرج المبدع «هانى عفيفى» على روعة الفكرة التى ولدت من رحم معاناة مسرح الطليعة وجمال المضمون، ونضرب تعظيم سلام للبيت الفنى للمسرح ورئيسه خالد جلال ومسرح الطليعة ومديره عادل حسان ووزارة الثقافة على المقطوعة المسرحية «أوبرا العتبة» هذا العرض الممتع الذى امتد عرضه نظرا لنجاحه وصدقه للموسم الشتوى رافعا شعار «صنع فى مصر» بباقة من الوجوه المبشرة والواعدة .
«أوبرا العتبة» وهى أجمل حصاد مسرح 2024 عمل استثنائى يعتمد على فلسفة البناء المسرحى التجريبى ويبدأ أول مشاهدها فى الشارع بفقرة أوبرالية لمغن ومغنية بين الزحام والفوضى فى قلب سوق العتبة وسط دهشة المارة وسط التلوث السمعى القائم على أصوات ميكروفونات الباعة فى سوق العتبة واللذين يدخلان، يدخلا مع انتهاء الفقرة بصحبة جمهور العرض رأسا على قاعة زكى طليمات بمسرح الطليعة ومتعة العرض أن الجمهور يمثل جزءا فيه ليجد نفسه فى مواجهة عبث الواقع كعنصر فاعل ومنفعل وفعال.
وتطرح المسرحية مجموعة أسئلة وجودية بينما تحاصر البضائع وأصوات الباعة الجائلين ومكبرات الصوت والصخب والزحام المسرحى وهى: ماذا لو خرجنا لنغنى أوبرا كلاسيكية وسط السوق؟.. وماذا لو اقتحم الصخب والتلوث السمعى والبصرى عزلة المثقف واحتل الباعة الجائلون خشبة المسرح؟.. ما الذى يشغلهم؟.. وأى نوع من الفنون يحظى بمتابعتهم؟ وإلى أين وصل إحساس العامة فى مجتمعاتنا بالجمال سمعيا وبصريا فى شتى مناحى الحياة؟ وكيف أثر انحصار جمهور الفنون الراقية لصالح مئات الآلاف من صناع المحتوى متدنى المستوى الفنى والفكرى والأخلاقى على وسائل التواصل الاجتماعى على وعى وثقافة الناس؟
لنتأمل العلاقة بين مستوى الثقافة ومدى انتشار الفنون الجميلة فى المجتمع وتأثيرها على أخلاقيات الناس وضمائرهم وتعاملاتهم اليومية، ومأساة الفنون الرفيعة وأزمة المثقف ومعضلة الأماكن المشعة بالإبداع وأولها مسرح الطليعة الملاصق للمسرح القومى العريق المجاور للأوبرا القديمة وحديقة الأزبكية هذه الأماكن التى تأثرت بالفوضى العارمة فى قلب ميدان العتبة، من هذه الزاوية يرسم المخرج صراع الأضداد التى نعيشها فى المجتمع ويستعرض زحام المفارقات وملامح العبث والفوضى ويحذر من خطورتهما ويعتمد على منطق المفارقات فى الشارع المصرى وتراجع فنون النخبة الجميلة وانحصارها وتأثرها بعبث الواقع وسيادة ثقافة أغانى المهرجانات وفوضى السوشيال ميديا وتمدد أسلحة التوك توك وتطورها.
فى المسرحية «الفلتة» تألق ديكور عمر غايات البسيط وأزياء مى كمال ولمعت موسيقى حازم الكفراوى وسط فواصل كلثومية لرائعة «أراك عصى الدمع» التى تكسر حاجز العبث، وبروز جهد مساعدى المخرج ميسون حسين وجمال عبدالناصر والمخرجة المنفذة إنجى إسكندر، كل هؤلاء مهدوا الطريق لتألق عدد من الوجوة المُفرحة: «دعاء حمزة» ابنة الكاتب والشاعر العملاق محمد حمزة الذى مرحت إبداعاته فى صفحات صباح الخير والتى أثبتت أن «العرق دساس» ومرحت موهبتها فى شخصية الزوجة التى تعانى من غياب زوجها للعمل بالخارج ومشقة متابعة الأبناء وجنون الغلاء.
وتألق محمد عبدالفتاح كالا (المثقف) وإياد رامى (مغنى المهرجانات) ورنا عاصم (بائعة الأحذية) وبكر محمد نوباتجى الأفراح) وهاجر عوض (انفلوانسر) وأحمد سعد (مذيع الراديو-مدرس خصوصي) وياسمين محمد(مذيعة الراديو) وأبدع مغنيا الأوبرا: نوران شرف الدين وعمرو أحمد فى غناء رائعة O Sole Mio، التى تعود لعام 1898 تأليف جيوفانى كابورو الحان إدواردو، وتغنى بها أشهر الفنانين حول مسارح العالم حتى وصلت ميدان العتبة فى السوق التى لا تتذوق إلا طعم الصخب.
«أوبرا العتبة» صرخة من قلب ميدان العتبة لإنقاذ المسرح القومى ومسرح الطليعة، وتحفة مسرحية شاملة تستعرض معالم العبث الذى يسكن أجمل الأماكن التاريخية فى مصر ويحذر من خطورة ثقافة السوشيال ميديا ويثمن دور الدولة فى القضاء على العشوائيات وننتظر وصولها قلب الميدان التاريخى ومعالمه لاستعادة الوجه الحضارى والثقافى له واسترداد مقومات الشخصية المصرية فى الجمهورية الجديدة.