وكـاد محيي الدين اللباد أن يبكى
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
عندى هنا حكاية أليمة.. للأسف!
سأروى تفاصيلها بعد أن أتحدّث عن بداية علاقتى بها.. وهى ولعى بفن تصميم أغلفة الكتب ومحتوياتها. زمان.. كان كل كتاب يحمل على ظهر الغلاف بيانات عن المؤلف.. وعن مصمم الكتاب.
كان ذلك بعد أن بدأ رواد تصميم الكتب وأغلفتها يحوّلون ابتكاراتهم هذه، إلى مهنة جديدة لم تكن موجودة قبلهم، حيث بلمساتهم الفنية الذكية يتحّول النص الذى يضمه الكتاب إلى عمل فنى جذاب يشجع على القراءة.
وتصميم الغلاف أصبح مع الوقت والتطور من العناصر المهمة فى صناعة النشر، وكذلك التصميم الداخلى، واشتهر عدد من المبدعين الرواد فى هذا المجال وأولهم الفنان حسين بيكار، رئيس قسم التصوير الزيتى فى كلية الفنون الجميلة الذى صمم كتاب «الأيام» بطلب من مؤلفه الدكتور طه حسين سنة 1944، ويعتبر هذا الكتاب بداية ميلاد فن تصميم الكتب.
وبيكار هو مصمم ورسام مجلة الأطفال «سندباد»، وكتب دار المعارف، ورسام أغلفة «صباح الخير».
أما عبدالسلام الشريف، أستاذى فى كلية الفنون الجميلة، فهو أول من حوّل صناعة تصميم الجريدة والمجلة والكتاب إلى أمور تعتمد على الفن فى التصميم والابتكار، ولم يكن هذا قائمًا من قبل.. كانت المسألة عشوائية ارتجالية تسير على هوى صاحب الجريدة أو محررها، بلا أى اعتماد على قواعد الفن.
واشتهر أيضًا أستاذى فى «صباح الخير» حسن فؤاد، كواحد من أبرع من جددوا فى هذا الفن الحديث.. كما برع آخرون مثل زميلى وصديقى فنان الكاريكاتير محيى اللباد، الذى أصبح يمثل مدرسة حديثة متميزة فى صناعة الكتاب وتصميم الأغلفة والتصميم الداخلى للكتب والمطبوعات الأخرى.
ومن المهم أن أشير هنا إلى ابنه أحمد اللباد، الذى أصبح واحدًا من ألمع وأبرز فنانى الجيل الجديد من مصممى الكتب، فقد ورث حب هذا الفن من معايشته لإبداعات والده.
ومن أبرز مصممى الكتب والأغلفة فنان متميز هو حلمى التونى.. الذى أعطاها ملامح مصرية مستمدة من أجواء الفنون الشعبية.. وألف ليلة وليلة.
وكان هناك عدلى فهيم الذى صمم كتبًا كثيرة منها روايات فتحى غانم.
وبالمناسبة فقد كان الأستاذ عبدالسلام الشريف يعلّمنا فن تصميم الكتب والصحف والمجلات خلال دراستنا فى قسم هندسة الديكور.
ومع ذلك فإننى لم أضع تصميم أول كتاب لى، إذ أننى أعيش فى لندن والكتاب يطبع ويصدر فى القاهرة، وقد تولى تصميمه وإخراجه صديقى وزميلى الفنان محمد حجى، وشاركت فى ذلك بفكرة بسيطة للغلاف طوّرها حجى، والكتاب هو «سعاد حسنى: سندريلا تتكلم» الذى ضم حوارى الطويل لمدة تقارب الخمس سنوات مع جميلة الجميلات سعاد حسنى.. وقد أضاف فى الصفحات الأخيرة ملزمة عبارة عن ألبوم صور من حياتها وأعمالها، فأعطى الكتاب طابعًا حميميًا.
كتاب صغير.. بديع
تذكرت كل هذا وأنا أستعيد على شاشة الذاكرة حكاية عشتها فى أواخر سنة 1974 خلال عملى فى «صباح الخير».. وتتعلق بكتاب صغير الحجم كبير القيمة.. أطلعنى على نسخة منه محيى اللباد بعد أن صممه وضمّنه رسومه الداخلية.
أعجبنى الكتاب وعرفت أن مؤلفه هو الكاتب السورى زكريا تامر.. أحد كبار مبدعى فن القصة القصيرة العربية.. يتحدث عن مأساة الإنسان الفلسطينى بطريقة ذكية ومبسطة وشديدة الإقناع بحق هذا الشعب فى أرضه ووطنه، الكتاب اسمه ببساطة «البيت».
وملخصه كالتالى: الفرخة لها بيت.. بيت الفرخة اسمه القن
الأرنب له بيت.. بيت الأرنب اسمه الجحر
الحصان له بيت.. بيت الحصان اسمه الاسطبل
السمكة لها بيت.. بيت السمكة هو النهر
العصفور له بيت.. بيت العصفور اسمه العش
القطة لها بيت تنتمى إليه
كل إنسان له بيت
أين بيت الفلسطيني؟.. بيت الفلسطينى فى فلسطين.. لكن عدو الفلسطينى اغتصبه وطرده منه!
أعجبتنى فكرة الكتاب وقرّرت أن أقدمه لقراء «صباح الخير» وقال محيى اللباد: كان من حظى أن رسمت هذا النص.. وأخرجته على شكل كتاب مصوّر صغير فى حجم مفكرة الجيب وأصدرته دار الفتى العربى.
وشاءت الظروف أن يدعى ياسر عرفات لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة فى مقرها فى نيويورك فطبعت منظمة التحرير الفلسطينية بالاتفاق مع دار النشر ترجمات للكتاب باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية ليوزع فى العالم وعلى وفود الدول المشاركة فى اجتماعات الأمم المتحدة. وتوالت بعد ذلك طبعات بعدد آخر من لغات العالم.
واستقبل الكتاب الصغير استقبالًا حسنًا، ونالت رسومه بعض الجوائز العربية والدولية.
تشويه الكتاب
فى سنة 1985 أى بعد 11سنة، كنت قد هاجرت إلى لندن وتعرّفت على زكريا تامر وتزاملنا فى العمل فى أكثر من مجلة وجريدة.. وجاءت الصدمة وروى وقائعها محيى اللباد على صفحات «صباح الخير»:
آخر طبعات الكتاب هى أغرب طبعاته على الإطلاق.. طبعة جديدة باللغة الإنجليزية صدرت فى لندن وكانت طبعة مزوّرة ومحرّفة.
صدر الكتاب المزور بنفس العنوان وبنفس الغلاف، وعليه اسم الكاتب الأصلى والرسام الأصلى ودار النشر الأصلية التى أصدرته منذ 11عامًا، لكن النص جاء محرّفًا بقصد، والأدهى والأمَرّ أن الرسم نفسه ناله التزوير والتحريف ليعطى معنى ومقصدًا مختلفًا كل الاختلاف.
ولم يستأذن من أصدر هذه الطبعة لا الكاتب ولا الرسام ولا دار النشر.
ولابد أن يتبادر إلى ذهن القارئ الآن سؤال: ومن الذى نشر هذه الطبعة المزوّرة.. هل هى إسرائيل؟!
لا، إنها جامعة الدول العربية التى انتقلت من القاهرة إلى تونس ويقودها الشاذلى القليبى..جامعة الدول العربية – مكتب لندن..
روى محيى اللباد الواقعة وهو يكاد يبكى.. أو يصرخ!
أحب أن أنتهز هذه الفرصة لأحكى قليلًا عن صديقى وزميلى الذى دخل «صباح الخير» قبلى بسنتين وهو يكبرنى بخمس سنوات، وتخرج من كلية الفنون الجميلة قبلى، وعمل رسامًا للكاريكاتير من قبل أن يتخرج، وانضم بذلك إلى كتيبة أحدثت ثورة فى عالم هذا الفن المدهش، وكان له مثل من سبقوه منهم، أسلوبه الخاص وشخصيته فى رسومه وموضوعاته، وفى الوقت نفسه كان يرسم قصص الأطفال ويكتبها أحيانًا.
وبالمناسبة أحب أن أذكر معلومة لطيفة اطلعت عليها خلال تصفحى لعدد من مجلدات مجلة الأطفال «سندباد» التى ظهرت فى 3 يناير سنة 1952، وصممها أستاذه (فيما بعد) حسين بيكار الذى كان يرسم معظم قصصها.. ماذا وجدت فى هذه المجلدات التى أحتفظ بأول أربعة منها بين مقتنياتى؟
رسالة طريفة من تلميذ صغير اسمه محمد محيى الدين اللباد، يقول فيها إنه يحب الرسم ويحب «سندباد»! وفى هذه المجلدات أيضًا عثرت على رسالة من قنا بعث بها تلميذ صغير اسمه عبدالرحمن الأبنودى يقول إنه من قراء المجلة، لكن الكبار يخافون عليه من أن يأخذه «سندباد» من دروسه!
نعود إلى اللباد والتطور الذى أحدثه فى عالم تصميم الكتب حتى أصبحت له شهرة عالمية ونال جوائز كبرى فى فن صناعة وابتكار وتأليف ورسم الكتب وخاصة كتب الأطفال.
لكنه فاجأنا بعد فترة بأنه أيضًا فنان وباحث وفيلسوف فى علم البصريات «الجرافيكس».. وأنجز عملًا يعد الأول من نوعه فى ثقافتنا العربية أطلق عليه كلمة واحدة هى «نظر»! وراح يصمم ويكتب رؤياه وأبحاثه ونقده وتعريفه بما لا نعرف من مجالات وموضوعات عالم الفن البصرى فى بلادنا وفى بلاد العالم، ونشر هذا كله فى «صباح الخير» ثم فى مجلدات يسميها «ألبومات» تعتبر موسوعة علمية وفنية فى مجال هذا الفن الذى لا يلقى عناية كافية، وتشعر فى كتابته بروح وطنية مصرية عربية وبأداء يجمع بين الذكاء وخفة الظل والتطلع إلى المستقبل.
وفى الأسبوع المقبل نواصل.