مصر تتحدى التحدى
خلود عدنان
لا يمكن اعتبار التصعيد فى البحر الأحمر مجرد أزمة إقليمية؛ بل تجاوز ذلك ليكون أزمة عالمية، تكافح خطوط الشحن والحكومات والتحالفات الدولية لمجابهتها؛ حيث كانت الأحداث الأخيرة بما فى ذلك الهجمات التى تتعرض لها السفن التجارية بمثابة تذكير صارخ بمدى الترابط بين الأمن البحرى والتجارة الدولية والاستقرار الجيوسياسى.
وتؤكد الاتقارير الدولية أن الخسائر البشرية والمالية التى لحقت بالتجارة العالمية بسبب أزمات البحر الأحمر مروعة؛ حيث أدت إلى زيادة تكاليف الشحن، وإطالة أوقات العبور، وتعطيل سلاسل التوريد العالمية، وزيادة انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحرارى بشكل كبير- حسب بيانات موقع «ماريتيم أكسوزتيف».
كانت قناة السويس أحد أهم الشرايين البحرية التى تواجه تحديات مستمرة فى البحر الأحمر بسبب الهجمات التى شنها جماعة «الحوثيون» فى اليمن على السفن، والتى تلقبها الصحف الأوروبية بـ«أعمال القرصنة»، إذ يُعد شحن الحاويات من أكثر القطاعات تأثرًا بتغيير مسارات السفن، وتتعامل القناة مع ما يقرب من 12 % من التجارة العالمية التى تمر عبر البحر الأحمر.
وأدت الهجمات الحوثية إلى تعطيل ممرات الشحن ما تسبب فى إعادة توجيه السفن والبحث عن ممرات بديلة للقناة، مع ما يترتب على ذلك من زيادة وقت الإبحار والتكاليف، والتأثيرات على تدفقات التجارة العالمية.
وفى هذا السياق؛ قال الدكتور محمد على إبراهيم، أستاذ الاقتصاد والعميد الأسبق المؤسِس لكلية النقل الدولى واللوجستيات، إن قناة السويس هى أطول وأهم ممر ملاحى بين الشرق والغرب، يتميز بتوفير الوقت ويوفر الوقود، إذ يستغرق الطريق البديل «رأس الرجاء الصالح» من 10 إلى 14 يومًا على الأقل، فضلاً عن أن توفير الوقود المستهلك لكل رحلة يكلف ما يقدر بعشرة ملايين دولار ذهاباً وعودة.
وأضاف لـ«صباح الخير»: هذه التكلفة تتحملها السفن التى تضطر إلى استخدام ممر آخر إلى جانب تكلفة الطاقم العامل عليها؛ فبدلاً من أن تُنجز عدداً أكبر من الدورات، أصبحت تُنفذ دورات أقل، وكل ذلك تكلفة إضافية يجب أخذها بعين الاعتبار، وهذا هو السبب وراء تفضيل الشركات العالمية لقناة السويس على أى بديل آخر.
ولفت إلى أن تحقيق وصول السلع إلى المستهلك فى الوقت المناسب وبتكلفة معقولة يُعد من العوامل المؤثرة التى تلقى بظلالها على سلاسل الإمداد العالمية، مما يؤدى إلى تغيير أنماط التجارة الدولية وإعادة صياغة السياسات الاقتصادية.
وبخصوص مستقبل الأمن الملاحى، ذكر «على»، أنه من الواضح أن الأمور تتجه نحو مسار محدد؛ حيث تقتضى الضرورة وجود نوع من التهدئة.
وكانت شركة «ميرسك» قد أعلنت أنها حتى نهاية عام 2024، ستتوجه نحو طريق رأس الرجاء الصالح، مما يعنى أن قناة السويس ستكون خارج حساباتها فى تلك الفترة.
واستطرد: إن حركة المرور عبر القناة شهدت انخفاضًا مستمرًا، حيث بلغ التراجع فى نوفمبر أكثر من 64%، وانخفض عدد السفن بنسبة 70%، ولكنْ هناك أمل فى أن تنحسر هذه الأزمة، ويعم الهدوء الأوضاع، خاصة بعد قرار وقف إطلاق النار فى لبنان، وانتظار التهدئة فى الأراضى الفلسطينية وبالتالى فالمنتظر توقف هجمات الحوثيين، مما يساهم فى تحسن الأوضاع فى الملاحة، وبالتالى عودة الأمور إلى مسارها الطبيعى.
وتطرَّق إلى جهود الدولة لمواجهة التهديدات التى تواجه قناة السويس، موضحًا أن الدولة تعمل على تنوع واستهداف تعزيز مكانتها الاستراتيجية فى ظل التحديات الحالية، ففى أوقات الأزمات، تواصل الدولة تحسين وتوسيع القناة؛ حيث تم تنفيذ توسعة فى الجزء الجنوبى من القناة فى الآونة الأخيرة، بالإضافة إلى عمليات تكريك لاستيعاب السفن بمختلف أحجامها بعد تجاوز الأزمة الأخيرة.
ونوَّه إلى مساعى الحكومة المصرية إلى تطوير الممر الملاحى بشكل شامل من خلال دراسة إمكانيات ازدواج القناة؛ بهدف القضاء على الطرق البديلة المنافسة، كما تعمل على تطوير آليات التعامل مع السفن العابرة، عبر تقديم تسهيلات لتشجيع مرور المزيد من السفن؛ حيث تحصل الشركات التى تشغل سفنًا أكبر وبحمولات أكبر على تخفيضات خاصة مقارنةً بالشركات التى تمر سفنها بشكل محدود، وهذا يساعد فى تحقيق توازن فى حركة التجارة وزيادة حجم التجارة العالمية عبر القناة.
وأفاد أن هناك تغييرات ملحوظة فى نمط التجارة العالمية وتطورات فى صناعة السفن، بما فى ذلك دخول السفن ذاتية القيادة التى لا تحتاج إلى أطقم بشرية، وهذا يفرض ضرورة تحديث قناة السويس لتصبح ممرًا ملاحيًا ذكيًا قادرًا على تلبية احتياجات المستقبل.
وأكمل: تجرى الدولة تحسينات على الخدمات اللوجستية التى تقدمها القناة، بما فى ذلك تطوير محطات تمويل الوقود وتوسيع نطاق الخدمات المرتبطة بالملاحة، ففى الآونة الأخيرة، بدأ تنفيذ منطقة لتعزيز اتفاقات التبادل الملاحى، مما يعزز من الإيرادات ويوفر قيمة إضافية للقناة، ويؤكد على التوجه نحو تحسين الخدمات بما يتماشى مع التوجهات العالمية الحديثة.
وسجلت قناة السويس أعلى مستوى من حركة سفن الحاويات فى عام 2024؛ حيث عبرت 54 سفينة الممر المائى فى كلا الاتجاهين، وفقًا لتحليل من قبل شركة «ألفالينر» المتخصصة فى صناعة الشحن.
وأعلنت «ألفالينر» على منصة «إكس» أن «نمط الحركة يظهر تحولاً واضحاً نحو السفن الأصغر»؛ حيث سجلت أكثر من 100 عبور شهريًا منذ أغسطس الماضى، واستحوذت السفن ذات سعة أقل من 4000 حاوية TEU على 78% من إجمالى حركة السفن عبر القناة.
فى حين أظهرت سفن الحاويات متوسطة الحجم التى تتراوح سعتها بين 4000 و7500 TEU بعض علامات الانتعاش مؤخرًا، إلا أن السفن الأكبر شهدت انخفاضًا كبيرًا بنسبة 92.5% على أساس سنوى؛ حيث تعمل بأقل من 20 عبورًا شهريًا.
التهديدات الإقليمية
فى الآونة الأخيرة تصاعد الإرهاب البحرى، وازداد توتر المحيطات، ما أدى إلى تباطؤ التجارة العالمية بشكل كبير؛ حيث يشن الحوثيون هجمات على الملاحة الدولية منذ نوفمبر من العام الماضى، حينما بدأ الهجمات الإسرائيلية على غزة.
وحسب دراسة أجراها مركز الأبحاث السياسية «بوليسى سنتر فور ذا نيو ساوث»، تتعرض العديد من الممرات الملاحية لتهديد أمنى غير مسبوق؛ حيث ينشط القراصنة قبالة سواحل الصومال، وتتعرض السفن للخطر من قبل جماعات إرهابية متعددة.
وفى ضوء هذه التداعيات، أوضح لنا الدكتور خالد السقطى، عميد كلية النقل الدولى واللوجستيات بالأكاديمية البحرية: «هناك تغيرات فى مسارات النقل حول العالم نظراً لظروف بعض المسارات مثل البحر الأحمر ومضيق هرمز وقناة بنما، سواء لأسباب جيوسياسية أو مناخية؛ حيث تم زيادة فى وقت ومسافة الرحلة البحرية ومن ثم زيادة التكلفة وأيضاً الطلب على الوقود كما أن لها تاثيرات بيئية سلبية من زيادة التلوث.
وأضاف «السقطى» لـ«صباح الخير»: إن التعامل الدولى مع تلك المتغيرات يخضع لعدة عوامل منها التكلفة والوقت لأنهما المؤثران على مدى توافر المواد والسلع فى التسوق، وأيضاً تجنب المخاطر المحيطة بأى مسار ملاحى.
وأشار إلى أن الأمن البحرى ستتغير أشكاله فى الفترة المستقبلية؛ حيث سيعتمد بشكل أكبر على تبادل البيانات الضخمة بين مجتمع الملاحة سواء على المستوى الإقليمى أو الدولى، وأيضاً ستلعب تطبيقات التكنولوجيا الحديثة دوراً محورياً فى تيسير تطبيق الأمن البحرى بكل أبعاده.
ممرات على خط النار
وحسب ما ورد فى دراسة «بوليسى سنتر فور ذا نيو ساوث»؛ فإن قناة السويس ليست وحدها من تواجه هذه التحديات، فهناك ثلاث نقاط مرور بحرية تتعرض لنفس المخاطر، مثل قناة بنما، التى تعد حاسمة لربط المحيطين الأطلسى والهادى، تحديات مثل نقص المياه الناجم عن الجفاف، مما يؤدى إلى فرض قيود على الحمولة وأوقات انتظار أطول للسفن.
ويتعرض المضيق التركى (ممران مائيان مهمان دوليًا يربطان بحر إيجه بالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود)، والذى تستخدمه أوكرانيا لنقل قمحها إلى المجتمع العالمى لاستهداف متكرر من قبل جماعات مختلفة، بينما تحاول تركيا ضبط ردود أفعالها والالتزام باتفاقية مونترو؛ لحماية أمنها القومى، مع توازن علاقاتها بروسيا من جانب وبحلف الناتو من جانب آخر.
وقد يصبح مضيق هرمز، حسب الدراسة، وهو نقطة اختناق بحرية حاسمة تمر عبرها ما يقرب من 25 % من الغاز الطبيعى المسال فى العالم، نقطة محورية للخلاف؛ حيث قد تحاول إيران منع أو تعطيل الشحن رداً على العمل العسكرى ضد قواتها، وما يزيد نقص الإمدادات وتقلب الأسعار والتأثيرات الاقتصادية، وتتأثر الأسواق العالمية ومستهلكو الطاقة فى جميع أنحاء العالم.
فى الوقت نفسه؛ يلوح شبح السطو المسلح فى مضيقىّ ملقا وسنغافورة، مع أكثر من 100 ألف سفينة تبحر فى مضيق ملقا سنويًا، مما يجعله المضيق الأكثر ازدحامًا فى العالم، ويحمل نحو 25% من السلع المتداولة فى العالم، بما فى ذلك النفط والمنتجات المصنعة الصينية، وغيرهما من السلع بقيمة تريليونات الدولارات.
لذا فأى اضطراب قد يخلف عواقب عميقة على التجارة العالمية، كما تشير التوقعات إلى أن حركة الشحن ستتجاوز قريبًا قدرة مضيق ملقا، مما يستلزم الاهتمام العاجل بتحديد طرق تجارية بديلة محتملة.
فهل يستطيع العالم أن يتحمل أن تصبح اثنتان أو ثلاث من نقاط المرور العالمية - من أصل 14 نقطة مرور فى جميع أنحاء العالم - مضطربة بسبب الأنشطة العسكرية؟.
3 حلول
وتظل الجهود الدبلوماسية، وتعزيز التهدئة الإقليمية؛ هى الحل الأمثل لحماية الأمن البحرى وطرق التجارة الحيوية، وهو ما نُشر فى مقال بموقع «CFR» حول ضرورة التعاون بين البِلدان المتضررة من الإرهاب البحرى، وتدشين مبادرات الدوريات البحرية المشتركة واتفاقيات تبادل المعلومات الاستخباراتية.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الاستفادة من تقنيات المراقبة المتقدمة، مثل مراقبة الأقمار الصناعية وأنظمة الوعى بالمجال البحرى، يمكن أن تعزز قدرات الكشف والتتبع، وتمكين الاستجابات الاستباقية للتهديدات المحتملة.
ويليها الجهود القانونية؛ حيث اللجوء إلى القضاء؛ لتفصل المحكمة الدولية لقانون البحار فى تلك النزاعات، بتطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التى تحكم الحقوق والمسئوليات البحرية، دون أى تصعيد عسكرى قد يتسبب فى التأثير على الاستقرار الإقليمى والتجارة العالمية وإمدادات الطاقة.