الخميس 20 فبراير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

العبـد الأخير فى بلاد العم «سام»!

الحكاية التى يرويها كتاب «باراكون، حكاية الشحنة السوداء الأخيرة»، وهو ليس فى الحقيقة سوى إعادة طباعة لكتاب كان قد صدر فى الولايات المتحدة للمرة الأولى فى أواسط العشرينيات من القرن الماضي، تروى سيرة «بطل»، لكن الكتاب يحمل توقيع باحثة عالمة - زورا نيل هرستون - هى التى تولت جمع مادته وتحريرها.



 

لن يكون من المنطقى إزاء التاريخ الراهن للولايات المتحدة، وهو تاريخ هيمنت عليه داخل المجتمع الأمريكى على الأقل، فكرة أساسية تتحدث عن العبودية والتمييز العنصري، تصديق أن سنوات الـ20 من القرن الماضى قد شهدت نهاية ما لعبودية طاولت عصورًا وبدأت قبل ذلك بزمن طويل هى عبودية الإنسان لأخيه الإنسان.

فإذا نظرنا مليًا فى تاريخ القرن الـ20 نفسه، لن يفوتنا أن نرى آثار ما لا يمكن تفريقه عن العبودية فى الحياة اليومية للأمريكيين وليس فقط تجاه الأفارقة السود المقيمين فى تلك الديار الشائعة إلى درجة تضيق هذه الأخيرة بهم بصورة مدهشة، بل تجاه كل ذى لون يختلف عن لون الأمريكيين الخُلَّص أنفسهم. ومع ذلك لا بد من أن ننطلق فى حديثنا هنا من ذلك الواقع القانونى الذى بعد عقود من اغتيال الرئيس أبراهام لنكولن المعروف بكونه «محرر العبيد» بات «سارى المفعول» وأقله على الورق. ومن هنا يتخذ أهميته ذلك النص الذى أعيد نشره بعد ثلثى قرن مرت على صدوره للمرة الأولى متناولًا تلك المسألة نفسها: تحرير العبيد.

الحكاية نفسها

والحكاية التى يرويها هذا النص المعنون «باراكون، حكاية الشحنة السوداء الأخيرة» وهو ليس فى الحقيقة سوى إعادة طباعة لكتاب كان قد صدر فى الولايات المتحدة للمرة الأولى فى أواسط العشرينيات من القرن الماضى كما أشرنا. صحيح أن للحكاية التى تروى لنا فى الكتاب «بطل»، لكنه يحمل توقيع باحثة عالمة - زورا نيل هرستون -هى التى تولت جمع مادته وتحريرها، بالتالى نقل حكاية تلك الشخصية المحورية التى أتت بها من عالم الحثالة إلى عالم الأدب التاريخى فى وقت كان من الصعوبة بمكان أن يشغل ولو حيزًا بسيطًا مما نقله إلينا التاريخ والمجتمع عبر شخص من الحثالة ليس له من سمات البطولة ولو قبس يسير.

 

وما ذلك الشخص سوى أولوالى كوسولا. ولعل فى مقدورنا هنا أن ننصح القارئ بألا يبحث فى المراجع التاريخية عن أى أثر لهذا الاسم، فهو فى الحقيقة لن يعثر عليه إلا هنا فى هذا الكتاب كما لو أنه بطل رواية خيالية ابتكرتها مخيلة أديب ما واحتفظت حصريًا بكل حقوقها فيه. ومع ذلك فهو كائن حقيقى من لحم ودم عاش طوال سنوات طويلة وكان من حظه، المعنوى لا أكثر، أن قيض له أن يكون بصورة رسمية، العبد الأخير الذى طاوله قانون إلغاء العبودية.

عشرات السنين فى الأسر

فى الحقيقة أن كوسولا حين رحل عن عالمنا فى عام 1935 فى ولاية ألاباما، حيث كان يعيش لم يكن يعرف عمره الحقيقى. كل ما كان يمكنه أن يعرفه كان سنوات أسره فى أمريكا منذ وصل إليها فى عام 1860 تحديدًا كى يصبح رهن العبودية فى «وطنه» الجديد وقد انتزع من إفريقيا، وطنه القديم، قسرًا على أيدى عصابات كان تهريب البشر إلى العالم الجديد ميدان نشاطاتها، وتحديدًا على متن السفينة كلوتيلدا التى يروى الكتاب حكايتها من خلال روايته حكاية ذلك العبد السابق فى ذلك الحين والذى كان قد بلغ من الشهرة إلى درجة بات من الطبيعى معها لكل المهتمين فى ذلك الحين بما ترتب على استعباد دام قرونًا عدة أن يسعوا إلى لقائه متحرين من خلال حكايته حول تاريخ الملايين من أمثاله من معذبى الأرض. وهو اشتهر على أية حال حينها بذاكرته التى لا تنضب وقدرته كحكواتي، ولكن خاصة بصدق ما يرويه، بل حتى بالبساطة المطلقة لحكاياته. وكان من بين الأمور التى ميزت حكايته كما أشرنا أول هذا الكلام أنه هو نفسه الذى يحمل لقب لا يشارك فيه أحد، وهو: آخر العبيد.

 

 

 

حكاية فريدة

إذًا هذا اللقب هو السلاح الأول الذى ساعد كوسولا على دخول درب الخلود من باب عريض فليس بالشيء القليل أن يكون امرؤ ما آخرًا فى مجال ما. لكن الأهم من ذلك هو بالتأكيد ذاكرة كوسولا التى التقطت الحوار البديع والمؤسى الذى أجرته معه مؤلفة الكتاب ومن خلاله تعرفت إلى حكاية كانت هى أول الذين اندهشوا إزاءها.

فذاكرة الرجل ورغم أنه كان يروى فى جلساته المتعددة مع محاورته حكايات تعود إلى عشرات العقود التى سبقت استعباده وانعتاقه وتحرره كانت تلح عليه أن يروى ما حدث له فى الصباح الباكر من اليوم الذى كان لا يزال فى دياره الإفريقية، حرًا كالريح والنور والهواء متنقلًا، رغم بؤسه المطلق بين مرابع صباح، بيد أن علينا أن نتذكر هنا أن وجهه ونظراته لم تكن لتعبر عن أى حنين إلى ملاعب الصبا، ولا عن أى نفور مما حدث له بعد ذلك.

فهو فى نهاية الأمر بدا متقبلًا لما كتب له لا ينظر إلى عقود عبوديته الطويلة بكونها زمنًا ما كان ينبغى قط أن يعيشه. بالنسبة إليه يعادل البؤس هنا بؤسه هناك. أما الآن وقد حصل على تلك الحرية التى من الواضح أنها قد باغتته، يبدو كالمتسائل عما يمكنه أن يفعل بها وكأن لسان حاله فى وضعه الجديد ما يقوله زعيم الخدم السود فى فيلم «ماندرلاي» لجريس وقد حررتهم من عبوديتهم فتسأله عن أحوالهم الجديدة وما الذى تغير اليوم عن زمن عبوديتهم ليجيبها: فى الماضى كنا نحصل على عشائنا فى السابعة، أما اليوم فلا ندرى أبدًا متى يحصل ذلك. واضح أنك أن تكون مرة عبدًا فإن ذلك لا يمحى أبدًا!

حكاية كتاب

والحقيقة أن ما سبق يمكن أن يقول لنا إن الحكاية هنا انتقلت من كونها حكاية عبودية إلى كونها حكاية كتاب. وناشرو هذا الأخير اليوم لا يفوتهم تأكيد هذا، حيث نراهم يفردون حيزًا كبيرًا ليس لموضوع الكتاب حتى ولو أنه عن العبودية نفسها وعما يمكن أن يكون من بعدها، بل لنوع من لا تفاهم يمكن استغرابه بين «بطل» الحكاية ومدونتها. فهذه الأخيرة وانطلاقًا من كونها فى الأصل مناضلة جعلت من كوسولا نموذجًا لبحثها فى هذا المجال، تنطلق من قدر كبير من الغضب يستبد بها إزاء المصير الذى كان من نصيب كوسولا، فيما هو يتعجب إزاء غضبها إلى درجة أنه يعتقدها غاضبة من حصوله على حريته!

يبقى أن ننقل عمن علقوا على هذا الكتاب حين عاد إلى الصدور بعد غياب طويل قبل أعوام قليلة من الآن الاهتمام إلى جانب من مسألة التمييز العنصرى كان غائبًا عن الأذهان وهو الجانب المتعلق بتاريخ ما قبل العبودية كما بتاريخ ما بعدها، ننقل عنهم كيف أن واضعة الكتاب زورا نيل هرستون قد محت نفسها تمامًا أمام شخصية محاورها الذى تفرد لحكى تاريخه بلسانه عددًا كبيرًا من صفحات تشتغل عليها بقدر كبير من التبجيل وقد بدت مصرة على أن تنقل عنه حكايته بلغته التى يتكلم بها عادة وبالكاد تبدو مفهومة لغيره.

وهى على أية حال تفيدنا فى هذا المجال أن «حرمان كوسولا من النطق بأى لغة مفهومة معناه وأد تاريخه نفسه بالنظر إلى أنه تاريخ لا يمكن لأحد غيره أن يعبر عنه»، فإن عجزت اللغة التى ينطق بها عن مساعدته فى رواية ذلك التاريخ فمعنى ذلك أن التاريخ قد فقد إلى الأبد واكتمال عبوديته حتى وإن كانت القوانين قد ألغتها. ويقينًا أن ثمة فى ذلك التاريخ جانبًا يتمثل فى ما قبل تاريخ العبودية يمكننا أن نختتم الحكاية به، وهو على أية حال أمر يرويه صاحب الشأن بلغة تبدو وحدها مفهومة: لقد كان فى الـ18 حين غزت منطقة قبيلته قوات ملك أبونى فى بنين الإفريقية لتأسره مثل مئات من أبناء قبيلته وتسلمه إلى عصابات المهربين التي، ومن دون أن يدرى كيف، نقلته إلى العالم الجديد عبر المحيط الأطلسى، حيث تحول إلى عبد وعاش حياته على ذلك النحو.