
توماس جورجسيان
صدام المطابخ وحوار الأكلات.. بالهنا والشفا
لم تعد الأكلات كما كانت أو كما كانت تطبخها الوالدة هكذا اعتدنا القول. فقد تم إضافة مكونات متعددة ومختلفة حتى للطبخة التقليدية. وبالتالى مفهوم وأيضا مذاق الوجبات تحول وتطور وتغير بشكل يلفت الانتباه ويثير الاهتمام ويعطى بلا شك أبعادا جديدة لمتعة الأكل .. ولذة الطعم.
ومثلما يتم رصد وتقييم لما تم كتابته وقراءته خلال العام المنصرم وما تم عرضه من أفلام ومسرحيات ولوحات فنية وإبداعات موسيقية لا يتردد خبراء المذاق وأصحاب المزاج بعالم الطبخ والأكلات فى تقديم وصفهم وتقييمهم لمشهد الأكلات والمشروبات فى نهاية العام. وذلك فى عالم يبحث دائما عن الجديد والمتجدد. عالم لديه رغبة فى أن يتذوق وأن يغامر فى تناول أكلات جاءت من ثقافات وشعوب بعيدة عن المكان الذى اعتدنا العيش فيه وتناول وجباته.
وبالتأكيد المغامرة فى تذوق الطبخة المجهولة لها طعم مختلف وتعد إضافة لخبراتنا الحياتية. ويجب الإشارة هنا إلى أن الانفتاح الأكلى (طبخا وتناولا وتذوقا) ذهنية ضرورية وحيوية للإقبال على الحياة وعلى الآخر المجهول أو الذى نتجاهله لسبب ما. وهذه الذهنية أو هذا الموقف المذاقى ليس بالضرورة يبعدنا تماما عن البحث عما أكلناه واستمتعنا به فى الفترات المبكرة من حياتنا. إن عدم تكرار المذاق مهما كان مميزا لهو أمر حيوى لتوسيع دائرة خبرتنا التذوقية. والمذاق الجديد قد يخلق مزاجا جديدا. وهكذا قد نتخطى المعتاد والمتكرر وربما الممل أيضا فى تعاملنا مع المطبخ فى البيت أو مع اختيارنا للمطاعم .. وفى قراءتنا لقائمة المأكولات ..

فى المشهد الطعامى الأمريكى نجد أولا: أن الأسعار بالنسبة لمكونات طبخ الوجبات أو شراء الوجبات الجاهزة زادت بنسبة قد تصل إلى 20 فى المائة فى المتوسط.الفاست فوود أو الوجبات السريعة زادت أسعارها وصغر حجمها. وجدير بالذكر أن حجم صناعة الوجبات السريعة فى أمريكا يتجاوز الـ 400 مليار دولار. وفى عالم البرجرز مازالت ماكدونالدز هى المتربعة على القمة. ولم يحدث تغيير كبير فى شعبية البيتزا (بكافة أنواعها) لدى كافة الأجيال. وبالطبع الذهاب إلى المطاعم للأغلبية أصبح رفاهية. وهذه الرحلة (إن حدثت) لا تتكرر كثيرا خاصة إذا كانت الأسرة بكامل أفرادها هى التى ستقوم بهذه الخطوة المكلفة!
ثاتيا: قائمة السلاطات بكافة أنواعها وأشكالها ومكوناتها تثبت حضورها فى المشهد الأمريكي. مع الأخذ فى الاعتبار مزاج الأجيال المختلفة وأيضا مزاج طالب الوجبة واختياراته الدقيقة المهتمة بتفاصيل مكوناتها. ومع السلاطات نجد مدخلا جديدا لمطبخ متعدد الخلفيات الثقافية والجغرافية وأكلات كثيرة تقترب جدا من أنواع النباتات والمأكولات البحرية وتبتعد عن اللحوم الحمراء.
ثالثا:لا شك أن منظومة طعام المتوسط صارت لها شعبية تتزايد مع مرور الأيام. وصفات المتوسط بطابعها النباتى على وجه الخصوص ووجود زيت الزيتون والجبنة البيضاء (فيتا).وعندما نقول المتوسط نجد المطبخ الإيطالى واليونانى والتركى والمغربى على وجه الخصوص. ونجد الفلافل والحمص والزعتر والزبادى.
رابعا: كما أن الفوليات أو البقوليات بأنواعها المختلفة احتلت فى الفترة الأخيرة رأس قائمة الأطعمة المفضلة والمحببة فى الحياة الأمريكية. وبالطبع يتفنن خبراء الطبخ وتحضير الأكلات (الشيفات) فى إعداد وصفات لذيذة وصحية أيضا يرضى كل الأذواق والاختيارات.
وفى كل الأحوال إصدار الأحكام مسبقا على الأكلات غير عملى. ولا أحد يستطيع حسم الأمر الخاص بالأكلات بشكل نهائي. فتذوق الأكل والاستمتاع به ذوق ومزاج وقدرة ورغبة واختيار واختبار ووراء كل كلمة من هذه الكلمات أو التوصيفات يجب أن تكون هناك خبرة وتجربة تساعد وتشارك وتثمن مذاق الوجبة وطريقة تقديمها .. ثم ما أحلاها الأكل معا بحضور الأصحاب والحبايب.
وأمر طريف جدير بالذكر هنا بخصوص الأكل .عندما احتفل الملياردير الشهير وارن بافيت بعيد ميلاده الـ 94 فى نهاية شهر أغسطس الماضى لم يتردد الملياردير فى أن يقول بأنه مازال يحتفظ بعاداته فى الأكل ويستمتع بها حتى الآن أكل البرجر والآيس الكريم وشرب الكوكاكولا. وهذا بالتأكيد يخالف كل النصائح الخاصة بالأكلات الصحية وعدم الرمرمة فى الأكل إذا جاز هذا التوصيف.
وخلال هذا العام (2024) صدر كتاب بعنوان ماذا أكلت أنا فى سنة واحدة؟ مؤلفه الممثل الأمريكى الشهير ستانلى توتشى والذى أصبح له فى السنوات الأخيرة حضور متميز فى تقديم الأكلات الإيطالية التى نما وترعرع عليها وتكون مذاقه الشخصى من خلالها. وله سلسلة تليفزيونية أذاعتها «سى إن إن» وهو يصول ويجول فى أنحاء إيطاليا ويسأل ويتذوق كافة الأطعمة التى يأكلها الإيطاليون.. وكعادته يتعامل توتشى مع الطعام ويحكى عنه بلذة وبنهم. والمعروف أن توتشى أصابه سرطان الفم منذ سنوات وبالطبع خلال معركته مع المرض الخبيث كان الطعام ليس له أى طعم.
بما أن التريند هو لغة العصر فى كل المجالات.. فإن صحيفة «وول ستريت جورنال» لم تتردد مؤخرا فى تسليط الأضواء على تريند أكل بدأ يتواجد فى مطاعم بعينها وتحديدا فى مدينة نيويورك.
إنها قضمة واحدة .. طبق صغير لا يحمل لك إلا قضمة واحدة من قطعة سمك أو سى فوود أو لحم فاخر مخدوم بإضافات أو لمسات (مثل الكافيار) تزيد من طعامتها وجمال شكلها.. نعم إنها لذيذة ويتراوح ثمنها ما بين 25 و30 دولارا.
واعتراف لا بد منه
أعيش فى السنوات الأخيرة تجارب شيقة وثرية من التعامل والتواصل مع ثقافات الأطعمة والأكلات أينما كانت نشأتها. لذا فإن كتابة مثل هذه السطور عملية ممتعة للغاية لأنى أستعيد بها لقاءاتى المتعددة مع الأكلات والطباخين والشيفات والمطاعم وما يكتب أو يتم تقديمه من أفلام وبرامج تليفزيونية تتناول الأكلات والمشروبات وأهلها المستمتعين بتناولها أولا.. ثم لديهم الشهية للحديث عن كل هذا.. وإمتاعنا وإدخال البهجة فى معدتنا.. وفى نفوسنا.