الجمعة 24 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ليلة القبض على هيكل!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

على الرغم من تقديرى وإعجابى بأستاذية محمد حسنين هيكل ودوره فى تحديث الصحافة المصرية وتزعمها للصحافة العربية، فإن المعاناة التى عاشتها صحافة الخمسينيات حتى السبعينيات، بسبب احتكاره للأخبار الرسمية المهمة وما ترتب عليه من تدهور أحوال كل الصحف ماعدا «الأهرام» حتى انتشرت بين الصحفيين وقتها المقولة الساخرة المعبرة عن هذا الحال المقلوب، أن «أهرام هيكل» هى الجريدة الوحيدة التى تصدر من مصر بينما بقية الجرائد تصدر من إندونيسيا!

 

ولا أنسى أننى كنت ضمن مجموعات من شباب الصحفيين الذين يعقدون اجتماعات وندوات فى مقر نقابة الصحفيين للاعتراض والاحتجاج على «احتكار الأستاذ هيكل لأهم أخبار الدولة» وخاطبنا فى ذلك نقيب الصحفيين وقتها وهو الأستاذ أحمد بهاء الدين، وطالبناه بأن يتقدّم للسلطات لإلغاء هذا الاحتكار، حماية للصحافة ككل.. وكان النقيب يؤيدنا من حيث المبدأ ويناقشنا، وهو رجل موزون وعاقل وغير متهور، كما أنه صديق هيكل.

كان يطلب فقط ألا تصدر منا عبارات تنطوى على إساءة شخصية أو إهانة أو سباب للأستاذ هيكل.

وقد استجاب الأستاذ بهاء لمطلبنا الذى كان أيضًا مطلب قيادات صحفية فى «الجمهورية» و«أخبار اليوم»، وتقدّم بمذكرة إلى الأمين المساعد للاتحاد الاشتراكى - مالك الصحف كلها بعد قرارات التأميم التى أعلنت فى 27 مايو 1960- ومن حسن الحظ أننى أحتفظ بصورة من هذه المذكرة التى توجد نسخة منها فى محفوظات نقابة الصحفيين، وهذا ملخص لها:

 

 

 

القاهرة فى 27 سبتمبر 1967

السيد الأمين العام المساعد للاتحاد الاشتراكى العربى

بعد التحية 

تلقى مجلس نقابة الصحفيين (مذكرات عدة) من الأعضاء، تعرض لموضوع «انفراد جريدة «الأهرام» دون سائر الصحف بنشر الأخبار ذات الطابع القومى» وما يترتب على ذلك من آثار بالنسبة للرأى العام وبالنسبة للمؤسسات الصحفية الأخرى.

وقد ناقش أعضاء المجلس هذا الموضوع وفوضنى فى أن أنقل إلى سيادتكم الملاحظات التالية بعد أن تداولوا فيها:

إن الأخبار ذات الطابع القومى المهم يفترض فيها أن تكون حقًا للرأى العام كله، وبالتالى لكل قراء الصحف فلا ينفرد بها قراء صحيفة دون أخرى.

إن تكرار تخصيص صحيفة واحدة بهذه الأنباء الخطيرة دون سائر الصحف ينعكس على الحالة النفسية لمحررى سائر الصحف إذ يرون أنفسهم محرومين من المشاركة فى النشاط الصحفى على نفس المستوى، ويسىء ثانيًا إلى حالة سائر الصحف من حيث إنه يهبط بتوزيعها ويصرف القراء عنها، ومن حيث إنه يهبط بموارد إعلاناتها بناء على إحساس المعلن بهبوط توزيع هذه الصحف، وبعدم أهميتها.

لم يحدث تغيير فى حال احتكار هيكل للأخبار.. بل تمتع «الأهرام» بمزايا أخرى تتعلق بتسهيل استيراد أحدث الآلات وتوفير العملة الصعبة.. وغير ذلك، فعاشت الصحافة فى ضنك مقابل تمتع «أهرام هيكل» بكل المزايا.

والحقيقة هى أن هيكل انفرد بالأخبار المهمة واحتكرها منذ تسلم «الأهرام» سنة 1957.. (أى أن شكوانا جاءت بعد عشر سنوات من وقوع الاحتكار).

وزاد الطين بلة أن فرضت رقابة مشددة على الصحافة بعد نشر مقالات تعترض على احتكار هيكل لهذه المزايا.

وبعث نقيب الصحفيين أحمد بهاء الدين بمذكرة أخرى حول هذه الرقابة مبينًا أنه خلال مقاومة العدوان الثلاثى لم تكن هناك رقابة، ولم يحدث أى انحراف فى الصحافة عن الخط الوطنى.

  وما حدث بعد ذلك وعايشناه كصحفيين شباب سنة 1967 وخلال زمن الهزيمة أن هيكل استطاع أن يحرّف كلمة «الهزيمة» ويستعمل بدلاً منها كلمة «النكسة».

 

 

 

ليس هذا فقط، بل فى وقت لاحق وجدناه ينبرى فى الدعوة إلى «تحييد أمريكا» خلال صراعنا مع إسرائيل.. فكيف يحدث ذلك إذا كانت أمريكا هى الراعى الأول لها؟!

وكنا نتساءل: ماذا يقصد رئيس تحرير «الأهرام»؟.. هل يدعونا كشعب للاستسلام؟! والرضوخ لإرادة العدو؟!

لكن صوتًا من الشعب استطاع الرد على هيكل.. هوعبدالهادى ناصف، وهو أحد زملاء أبى فى مصنع السماد، وقد أصبح يتولى مركز مساعد أمين الدعوة والفكر فى الاتحاد الاشتراكى كمال رفعت فتصدى لهذه الفرية.. أين؟ على صفحات جريدة «الجمهورية» التى أصدرها مجلس قيادة ثورة يوليو.

تأميم قبل التأميم!

نعود إلى الحديث عن تأميم الصحافة، فالذى لا ينتبه له كثيرون رغم وقوعه أمام أعينهم هو أن أول عملية تأميم للصحافة فى مصر تمت قبل صدور ما سمى بـ«قانون تنظيم الصحافة» سنة 1960 بثلاث سنوات!

وتمت هذه العملية بأموال الدولة التى دفعتها لورثة جريدة «الأهرام» وكانت جريدة معتدلة لا تهتم بالسياسة ولا تعارض الملك ولا الإنجليز ولا الحكومات المتتالية الموالية للملك والإنجليز وطبقة الإقطاعيين وأصحاب الملايين.. اشترتها حكومة الثورة سنة 1957 وسلّمتها لمن تأتمنه من الصحفيين وهو محمد حسنين هيكل، الصديق الشخصى للرئيس جمال عبدالناصر، فأصبح رئيس تحريرها ومالكها ومديرها!

وعندما جاء قرار التأميم، لوحظ أنه لم يشمل «الأهرام» بدعوى أنها مؤسسة مستقلة!.. وكان موقف أصحاب الصحف من التأميم، هو أنهم صمتوا جميعًا، إلا إحسان عبدالقدوس، بوصفه مالك مؤسسة «روزاليوسف» فكان موقفه مثيرًا لدهشة الجميع، إذ كان مالك الصحف الوحيد الذى رحب بقرار التأميم.. معلنًا أنه يخلّصنا من الرقابة الغاشمة التى تتحكّم فى الصحافة.. وتم تأميم مؤسسة «روزاليوسف» مع إبقاء إحسان عبدالقدوس مديرًا عامًا لها!

والحقيقة هى أن تأميم الصحافة كانت له فوائد، كما كانت له أضرار، ومع أننى لم أعاصر الصحافة قبل الثورة وقبل التأميم، فقد كنت فى السابعة من العمر عندما قامت الثورة.. لكننى اطلعت وقرأت واستمعت من الكبار للكثير من أحوال الصحافة زمان.

وما أذكره هو أن صحافة ما قبل التأميم كانت مملوكة - فى أغلبها - لأفراد يتطلعون إلى الربح بأى طريقة ويمالئون القصر الملكى ويتغاضون عن الاستعمار الإنجليزى ويحمون مصالح كبار ملاك الأراضى الإقطاعيين وكبار أصحاب المال والأعمال، ويوجهون صحفهم إلى الأخبار المسلِّية والمثيرة ويشجعون على نشر الخرافات والجرائم وأسرار حياة المشاهير وحكايات الخيانة الزوجية والطلاق، والهدف هو زيادة الرواج وحصد أكبر كمية من المال.. وكان رؤساء التحرير وأعوانهم يتفننون فى إضافة عناصر إثارة غير حقيقية على الأخبار والأحداث.. والهدف هو رفع أرقام توزيع صحفهم ومجلاتهم.

المعلنون والموزعون

كتب أحد كبار صحفيى هذه الفترة يشكو من نفوذ المعلنين على الصحف بحيث لا تنشر عن شركاتهم أى أخبار عن حقيقة ما يجرى فيها.

وروى أيضًا عن التدخل العلنى ليس فقط للمعلنين، ولكن للمعلمين موزعى الصحف، فكان أى معلم منهم يدخل الجريدة ويهدد من فيها بأنهم إن لم ينشروا قصصًا مثيرة ومسلية وخيالية وبعيدة عن الموضوعات الجادة والمشاكل، فإن الجريدة سوف تفلس ويكون المرتجع منها كبيرًا وقد تغلق أبوابها لو لم تستجب لما يقوله الرجل الذى يرتدى جلبابًا أو قفطانًا وعمة وبلغة ولا يكاد يفك الخط!.. لكن هيبته واحتفال أصحاب الصحف به كانا من الأولويات!

صورة تكشف عن تدهور أوضاع الصحافة وتخليها عن مهمتها الأصلية فى الإعلام والتنوير ورفع مستوى ثقافة الناس وإطلاعهم على أحوال بلدهم ومشاكله بهدف النهوض والتقدم وأيضًا إطلاع القارئ على أحوال العالم الذى يعيش فيه.

طبعا لم يكن هذا حال كل الصحف، فقد كانت «روزاليوسف» و«صباح الخير» تعبران عن مدرسة صحفية محترمة للناس والمهنة والوطن والمسئولية.. وتقدم أرفع نماذج الفن الصحفى المعتمد على الصدق.. واحترام القارئ.. ومواجهة كل أشكال الفساد.

لكن هل حقق تأميم الصحافة الهدف منه؟!

من تجربتى الشخصية وقد دخلت «صباح الخير» كمجلة تصدر عن مؤسسة تم تأميمها هى «روزاليوسف» أننى لم أشعر بأن هناك مالكًا للمؤسسة وأننى أعمل عنده.. كان شعورى من وقتها سنة 1964 أننى أعمل عند مصر، لصالح مصر.

 

 

 

وعودة إلى هيكل، الذى حقق لنفسه ما لم يتحقق لأى صحفى مصرى أو عربى، وهو أن أصبح الصحفى المصرى والعربى الوحيد الذى بلغت شهرته مستوى «العالمية».. فاحتكاره للأخبار ونشره مقالات عن سياسات مصر عبدالناصر، وإذاعة مقاله الأسبوعى «بصراحة» كل يوم جمعة فى إذاعة القاهرة.. وهى ميزة لم تتح لأى صحفى آخر.. وكان له جمهور مثل جمهور أم كلثوم.

الصحفى الوحيد

طبعًا بوصفه الصحفى الذى يتحدث يوميًا مع الرئيس على التليفون ويبلغه بما تجمّع لديه من أخبار ويناقش معه أمور الدولة والسياسة ويقول عنه الرئيس عبدالناصر أنه الشخص الوحيد الذى يمكنه تفسير سياساتى وأفكارى فى عبارات موجزة وواضحة، ما جعل هيكل يعتبر نفسه شريكًا فى الحكم فى عهد عبدالناصر.. وترتب على ذلك خلافه الكبير مع الرئيس السادات، حيث اشترط أن يشاركه فى الحكم، ما أثار حفيظة السادات، فعزله من موقعه الأثير «الأهرام». 

وروى عن السادات أنه قال لرئيس مجلس الأمة سيد مرعى تعليقًا على هذا ما معناه أن هيكل أصابه الجنون. 

والحقيقة أن هيكل استفاد من خروجه من «الأهرام»، فقد أتيح له الوقت الكافى ليكتب الكتب وينتشر عربيًا وعالميًا وتتهافت صحف دولية كبرى على نشر ما يكتب.

وأغرب ما يمكن هو ما حدث له من أحد من تهافتوا على الاقتراب منه، فهذا الشخص، وفى توقيت قرّر أن يصدر كتابًا فى تمجيد الأستاذ محمد حسنين هيكل، ولم يكن الوحيد الذى تقرّب من هيكل وأصدر عنه كتابًا يمجده.. لكن الذى حدث بعد فترة أنه هو نفسه، قام بإصدار كتاب آخر عن هيكل.. وهذه المرة قرّر أن يسب الأستاذ ويشوه صورته ويستخف به!

 لا أعرف السبب

الحديث يطول، لكن يجب ألا أنسى عنوانه: ليلة القبض على هيكل.

 ماذا حدث؟

الحكاية رواها هيكل بنفسه ونشرت على صفحات «صباح الخير» فى التسعينيات من القرن الماضى، ولم يكن يعلم بها أحد، وبالتالى فلم يسبق أن تناولها أحد.. مع أنها وقعت قبل ذلك بعقود.. فقد عاد من رحلة إلى نيويورك كان يرافق فيها الرئيس عبدالناصر لحضور جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولدى وصولهما القاهرة ذهب الرئيس من فوره إلى بيته فى منشية البكرى، أما هيكل فقد اختار أن يتجه إلى صحراء الهرم ليسرح هناك مع أفكاره وتأملاته.. وهناك استوقفته قوة بوليس تابعة لقسم الهرم، واقتادته إلى القسم وعندما سأله رئيس القسم الشاب وهو برتبة ملازم أول، عن سبب تواجده فى هذا الوقت فى هذا المكان، وعلى ماذا كان ينوى بالضبط؟!

حاول أن يشرح له الأمر وقدّم له نفسه: محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير «الأهرام».. لم يقتنع الضابط الشاب بما ردده هيكل من أنه كان منفردًا بنفسه فى التفكير بعد العودة من رحلة الأمم المتحدة. ماذا فعل الضابط الشاب؟

قرّر احتجاز الأستاذ فى تخشيبة القسم حتى اليوم التالى، لتحرّى الأمر.

هكذا حكى هيكل حكاية ليلة القبض عليه، لكن سيخطر على البال سؤال مهم: لماذا لم يستخدم الأستاذ اتصالاته للخروج من هذا المأزق فورًا ؟!.

والأسبوع المقبل نواصل.