شمعة الـ 90 فى عزلتها الملكية

ماذا يعنى أن تبلغ فيروز العام الـ90؟ لماذا اختارت مطربة الأجيال أن تحيا فى عزلة «بيتية» أليفة، بعيدًا عن الإعلام والضوضاء؟
تعيش فيروز منذ أعوام، حالة من العزلة التى يمكن وصفها بـ«العزلة الملكية»، منقطعة عن الإعلام والكاميرات، وحتى عن بعض من أصدقائها القدامى، الذين باتت تتواصل معهم من بعيد، عبر الهاتف تحديداً أو السوشيال ميديا من خلال ابنتها المخرجة ريما الرحبانى، التى ترافقها بصفتها مديرة أعمالها.
تعيش فيروز، بعدما تركت بيتها البيروتى، فى منطقة الروشة، فى دارتين، الأولى فى بلدة الرابية الساحلية، وكانت البيت العائلى منذ أواسط الستينيات، والثانية فى قرية شويا قرب بلدة ضهور الشوير الجبلية.
ويعيش معها ابنها المقعد هلى، ويقيم زياد أحيانًا فى البيت الشتوى.
غير أن هذه العزلة ليست قسرية بتاتًا، بل إن فيروز هى التى اختارتها بنفسها، فهى فى أتمّ العافية، والإشراق والحضور، وفى أوج العيش الحقيقى، فنا وتأملًا، تتألم أمام المشهد المأساوى الذى يهيمن على لبنان، وعلى الجنوب تحديدًا، الذى كانت سباقة فى التغنى بترابه وأرضه وشعبه فى أغنية «إسوارة العروس». لكنها تتفاءل وتفرح بطيبة تامة، إذا ما تناهت إليها أخبار سارة، عن البلاد والناس والوطن. عزلة فيروز وانقطاعها التام عن الإعلام، وعيشها فى خلوة الذات والذكريات، ليست مجرد اختيار للعيش فى الظل، بعيدًا عن مجرى الحياة فى معظم أوجهها. فهذه السيدة التى شاءت الانسحاب من معترك الأضواء منذ أعوام، تعيش حالة من الوئام مع فنها ورسالتها وقضيتها، فالابتعاد عن الضجيج الإعلامى والأضواء لا يعنى الاعتزال أو الاستقالة. إنها منذورة للفن طوال حياتها.
فيروز التى تقيم فى دارتيها، الشتوية والصيفية، تتابع كل ما يحصل سياسيًا وفنيًا، ولها رأيها ومواقفها، ولا تحتاج إلى أن تطل إعلاميًا ليتذكرها جمهورها الذى يزداد أكثر فأكثر، وهو يحمل اسم «الفيروزيين». ويكفى الاطلاع على التحيات الغزيرة، التى توجه إليها عبر السوشيال ميديا، ليتم التأكد من الحضور الشديد والساحر الذى تمارسه هذه المطربة، التى تقبل الأجيال على فنها، وكأنها النجمة المشرقة التى لا يخفت لها ضوء.
وتبلغ التحيات ذروتها فى عيد ميلاد فيروز، وكأن الجميع يريدون مشاركتها هذا العيد من دون أن يسألوا عن عمرها، فهى بنظرهم خارج لعبة الأعمار وفوق وطأة الزمن. إنها المطربة الحاضرة دومًا، المتجددة دومًا بتراثها الغنائى الذى هو ابن اللحظة المستمرة والمفتوحة على المستقبل.

لم تغب فيروز يومًا عن حياة الناس اليومية، ولا يمكنها أن تغيب، صوتها هو الرفيق الذى يستحيل الاستغناء عنه، وأغنياتها هى الظلال التى يفىء إليها الناس فى لحظات الحنين والحب والشوق والحزن والفرح.. إنها أغنيات الحياة فى كل وجوهها.
«الديفا الصامتة»
تؤثر فيروز الصمت دومًا، وكم أصابت صحيفة «الجارديان» البريطانية فى تسميتها «الديفا الصامتة». تعلم فيروز جيدًا أنها وجدت لتغنى، وأن الغناء سر منحها الخالق إياه، وأن صوتها وحده قادر أن يواجه الزمن وغوائله.
هذه المطربة المنزهة دومًا، والمترفعة التى لا تستسلم إلى أى إغراء، لا يعنى ترفّعها أنها متعجرفة أو متكبرة. فهذه المطربة التى لم تنكر يومًا ماضيها الشخصى البسيط ولا الطفولة الوديعة التى عاشتها وسط عائلة غير ميسورة، تعلم جيدًا معنى الألم والمعاناة، ويشغلها البعد الإنسانى فى علاقتها بالعالم والحياة والبشر. إنها المطربة المفطورة على الجمال والحب، على ألم الفقدان والحزن، وقد وصفتها مرة صحيفة «لوموند» الفرنسية بـ«المرأة القدرية»، التى تحدت على طريقة البطلات الإغريقيات، أشد أحوال الحداد، بعد موت عاصى وموت ابنتها الشابة ليال، وأشد الصعاب التى اعترضت حياتها، كمطربة وزوجة وأم وإنسانة فى هذا العالم.
لا تخلو عزلة فيروز من بعد روحى ووجدانى، فهى لا تزال تعيش الحالة «الأيقونية» التى وسمتها، خصوصًا خلال أعوام التجربة الفنية التى عاشتها مع الأخوين، عاصى ومنصور، والتى لم يستطع ابنها زياد، عبر تعاونهما المشترك، من تحريرها منها، رغم أن هذا التعاون الإبداعى الكبير، رسم صورة أخرى للمطربة ووضعها فى سياق عصر ما بعد رحبانى (عاصى ومنصور) وجعلها قريبة جدًا من ذائقة الجيل الجديد وهمومه اليومية. تؤثر فيروز الابتعاد عن اللقاءات المفتوحة والمناسبات الاجتماعية، فهى نسيج وحدتها وفنها العظيم وأسرارها التى ترفض أن تخرج إلى العلانية. ومن الملاحظ بوضوح كيف أن فيروز لا تتخلى عن نظارتها السوداء عندما تضطر إلى الخروج من البيت، أو فى اللقاءات، لا سيما عندما تكون على مقربة من جمهورها فى صلوات الآلام والفصح والميلاد. هذه النظارات التى تضعها دومًا كلما خرجت من البيت، حتى فى الليل، تحميها من نظرات الناس التى تحرجها، وتخفى خفرها العفوى.
وقد يكون من الطبيعى أن يشكو كثر من أهل الفن الحقيقى، أهل الغناء والمسرح والسينما والفن التشكيلى والشعر والأدب، من عدم قدرتهم على لقائها، رغم استماتتهم على مصافحتها أو التحدث إليها بل التعرف إليها عن كثب، وهم من محبيها والمفتونين بها. مرة أعرب ممثل شاب موهوب وقدير عن أسفه لعدم تمكنه من لقاء فيروز ولو مرة واحدة، فى هذا العمر، وقال: فيروز تسخى علينا كثيرًا بصوتها الرائع، فلماذا تبخل علينا بلقاء عابر؟
فيروز لا ماكرون
عندما زارها الرئيس إيمانويل ماكرون فى دارتها، فى الثانى من سبتمبر (أيلول) 2020 خلال زيارته الثانية للبنان عقب انفجار المرفأ، بغية تقليدها وسام جوقة الشرف، الأرفع فرنسيًا، مُنعت كاميرات الشاشات والصحافة من تصوير الحدث الكبير داخل دارة فيروز، وتولت ريما الرحبانى مهمة التصوير وتوزيع الصور الفوتوغرافية التى التقطتها هى بنفسها على الصحافة المرئية والمكتوبة.

كانت ذريعة المنع، تفشى وباء كورونا، مما حرم جمهور فيروز والمواطنين من رؤيتها فى مشاهد حية على التليفزيون، تتحدث وتبتسم بخفر، ولو خلف قناع بلاستيكى يظهر وجهها واضحًا. التصوير الآن، وقف على ريما، وممنوع على الصحفيين، وعلى الأصدقاء الذين يزورونها، أيضًا. ريما وحدها تختار كادرات الصور وأبعادها، ريما وحدها تقرر متى تصورها، فى المنزل أو فى الطبيعة أو فى زياراتها القليلة، ومنها زيارة عائلية لإحدى الكنائس، وفيها ظهرت فيروز مع زياد وهلى.
كان جمهور فيروز متشوقًا لمشاهدة فيروز وليس ماكرون عندما زارها، فهى قليلاً وقليلاً جدًا، ما تطل، ومثلت تلك الصورة «التاريخية» أولى إطلالتها الفوتوغرافية بعد فترة من الغياب الطويل.
وردة على سياج قلعة بعلبك
تشاهد فيروز عبر الشاشة الصغيرة المشهد المأساوى الذى تطل فيه قلعة بعلبك، بعدما جردها القصف الإسرئيلى الوحشى من جمالها وهالتها التاريخية وجعلها أشبه بالطلل. تتألم كثيرًا، كما نقلت عنها صديقة لها، وقد هالها منظر الدمار الذى حل بفندق بالميرا الشهير الذى كان مربض الفرقة الرحبانية، والذى كانت تقيم فيروز فيه وتستريح، خلال تقديم المسرحيات البعلبكية، هذا الفندق الفنى يحمل أجمل ذكريات المهرجانات وحل فيه ضيوف كبار الفنانين العالميين.
كانت فيروز فى الـ21 عندما أطلت للمرة الأولى على أدراج قلعة بعلبك عام 1956 فى «الليالى اللبنانية» لتغنى رائعتها ورائعة الأخوين رحبانى، عاصى ومنصور، «لبنان يا أخضر حلو» وسواها من أغان لا تزال محفورة فى ذاكرة القلعة البديعة، وفى وجدان الجمهور الكبير. كان لبنان حينذاك كما وصفته الأغنية، أخضر وحلوًا، وظل على خضاره وحلاوته فى أغنيات فيروز والرحبانيين، أما واقعًا فلم يبق من خضرته وحلاوته إلا النزر اليسير الذى نجا -حتى الآن- من رياح القصف والخراب والفساد والبشاعة والطمع والأنانية.
ويذكر اللبنانيون جميعًا كيف أضيئت قلعة بعلبك فى الـ21 من نوفمبر عام 2016 وتم نشر صورة ضوئية عملاقة لفيروز على واجهة القلعة، وتم بث الأغنيات التى أدتها على أدراجها بدءًا من عام 1956، ومنها أغانى المسرحيات البديعة التى احتلت تباعًا أدراج معبد جوبيتر، مثل «جسر القمر» و«أيام فخر الدين» و«جبال الصوان» و«ناطورة المفاتيح».. وغيرها.
هل بلغت فيروز التسعين حقًا؟ يبدو أن تصديق لعبة العمر هذه، صعب جدًا، حيال مطربة كبيرة تعيش خارج وطأة الزمن، فى فضاء الفن والحب والجمال.