هى إن حكـت

هى التى سمّاها الشاعر أنسى الحاج «الدائمة». فيروز التى كلّما انقضت سنة، غلا عهدُها على القلوب أكثر وترسّخَ صوتها أعمق فى الآذان والوجدان. فما السنوات، وإن كانت تسعين، فى عمر أسطورةٍ خلّدها الزمان وحفرَ اسمَها على أعمدة الأبد؟
فى تسعينها، تجلس «السيّدة» فى دارها فى إحدى بلدات جبل لبنان. تحرس ذاكرة وطن. يَحلو للّبنانيين أن يردّدوا: «طالما فيروز بخير، البلد بخير». وكأنّ بقاءها هنا، فى مكانٍ ما من هذا اللبنان المتعب، خلف بابٍ لا تطرقه سوى قلّة، يكفى حِرزًا للوطن المشظّى. كما يكفى أن تصدح أغنية منها فى الصباح، لتشرق الشمس على خليج بيروت بعد ليلٍ دامس؛ «يا مينا الحبايب يا بيروت... يا شطّ اللى دايب يا بيروت... يا نجمة بحريّة عم تتمرجح عالمىّ... يا زهرة الياقوت يا بيروت».

سيّدة الصمت
فى بيتها البعيد تطفئ نهاد حداد، التى صارت «فيروزَ» لبنان والعرَب وعاصى الرحبانى، شمعتَها التسعين وسط أولادها. ليس الزمنُ زمنَ احتفالات، فعدّاد الضحايا والدمار فى البلد أسرع من سنوات العُمر، وفيروز ليست أصلاً من هواة الصخب.
يُضاف إلى ألقابها لقب «سيّدة الصمت». هى الأقلّ كلامًا والأكثر غناءً. فاضت الأغنية عن حنجرتها فسقت تاريخ الفن والموسيقى، فى حين بقيت كلمتها شحيحة. تشهد على ذلك حواراتها الصحفية التى تكاد تُعدّ على أصابع اليد. عاتبَها كثيرون على صمتها الطويل، إلا أنها آثرت الردّ عبر الأغنية.
فى أغانيها العابرة للأزمنة والحدود، كما فى القليل الذى نطقت به عبر الإعلام، قالت فيروز الكثير. نبعت أفكارها من حكمتها البسيطة ومن فلسفتها غير المتفلسفة. وعلى سهولتها، فإنّ أقوالها ضربت عميقًا فى المعانى الإنسانية.
فى وقتٍ ظنّها الجمهور بعيدةً وجالسةً على عرشٍ لا يُطال، كانت تذكّر فى كل إطلالةٍ من إطلالاتها النادرة، كم أنّ جمهورَها غالٍ على قلبها؛ كأن تقول: «الناس هنّى الحب القريب والبعيد... هنّى الغِنى النفسى لإلى»، أو كأن تأخذنا إلى أعماق حَدسِها وتبوح: «الناس لمّا بيحبّوا مش مهم شو بيقولوا. فى عواطف ما بتنقال، بتنحسّ. أنا بحس الناس كتير».
«مملكتى ما فيها بكى»
بقيت «الأنا» لدى فيروز طىّ الأسرار، ربّما لخفَرٍ فى شخصيتها، أو حفاظًا على الهالة الفنية الاستثنائية، وربما أيضًا لأنّها لم تثق كثيرًا بالآخرين فآثرت العزلة على الاختلاط؛ وهى اعترفت شخصيًا بذلك عندما قالت مرة: «فيروز مش عنيدة. فيروز بتفكّر كتير وثقتها بغيرها قليلة، واللى مقتنعة فيه بتعمله».
قلّما برزت تلك «الأنا» فى الأغنية الفيروزيّة. ليس إلا فى أعمالها الحديثة حتى حصل ذلك، وتحديدًا فى «فيكن تنسوا» من ألبوم «كيفك إنت» الصادر عام 1991. استدرجتها كلمات الشاعر جوزيف حرب وألحان ابنها زياد الرحبانى لتخرج من خجلها الأبدىّ وتغنّى ما هى عليه فعلاً: «أنا البيسمّونى الملكة وبالغار متوّج زمنى ومملكتى ما فيها بكى وجبينى ولا مرة حنى».
من الألبوم نفسه لكن فى «أغنية الوداع»، اعترافاتٌ من فيروز إلى جمهورها. للمرة الأولى تحدّثت إليهم بشكلٍ مباشر مستعينةً بكلمات ابنها زياد: «أنا صار لازم أودّعكن وخبّركن عنى.. أنا كل القصة لو منكن ما كنت بغنّى».
وُصفت تلك الأغنية بالحزينة إذ قرأ فيها الناس رسالة وداعٍ أو ربما اعتزال، بينما كان المقصود توجيه رسالة حب وامتنان إليهم. وقد عادت فيروز بعدها لتجدّد الموعد مع جمهورها عبر مزيدٍ من الألبومات والأغنيات.

فيروز الأمّ
مثلما خبّأت عينَيها فى معظم الأوقات خلف نظارتَين سوداوَين، حاولت فيروز أن تُبقى حياتها الخاصة بعيدةً عن العيون. ورغم ذلك، فإنّ الكثير من تفاصيل التراجيديا العائلية تسرّب إلى الإعلام وإلى الأغنية أحيانًا.
فى مقابلتها الشهيرة مع الإعلامى والسياسى الفرنسى فريدريك ميتران، تحدّثت فيروز عن زوجها عاصى الرحبانى، واصفًة إياه بالصعب والقاسى. وفى حوارٍ آخر قالت إنه «ديكتاتور». لكن رغم العواصف التى هبّت على تلك العلاقة فأدّت إلى تفسّخها، غنّت فيروز لعاصى يوم أصابه المرض: «سألونى الناس عنك يا حبيبى كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا بيعزّ عليىّ غنى يا حبيبى لأول مرة ما منكون سوا».
الأمجاد الكثيرة التى أضاءت حياة فيروز، قابلتها أحزانٌ وامتحاناتٌ مُضنية مثل خسارة ابنتها ليال فى ربيع العمر. وفى وقتٍ غابت تلك المأساة عن الأغانى والأحاديث الصحفية، حضرت قصة ابنها هَلى ومرضه طفلاً، وإن بشكلٍ موارب، فى أعمال مثل «بكوخنا يا ابنى» (1966) من كلمات الشاعر ميشال طراد وألحان الأخوين رحبانى.
«علوّاه لو فيّى يا عينيّى لأطير اتفقّدك يا رجوتى بعدك زغير...». تقول الحكاية إن القصيدة مهداة من الشاعر لابنه الرضيع، لكن الكلمات راقت للأخوين، وهى تماهت مع قصة فيروز وابنِها المريض الذى كانت تضطرّ لتركه بداعى الحفلات والرحلات الفنية.
فى عامها التسعين، ما زالت فيروز تشرف شخصيًا على رعاية هلى المحروم من المشى والسمع والنطق. وهى استحضرته من جديد بصوتها عام 1999 فى أغنية «سلّملى عليه»، التى تشير بعض المصادر إلى أنها وزياد كتباها عنه... «سلّملى عليه وقلّه إنى بسلّم عليه وبوّسلى عينيه وقلّه إنى ببوّس عينيه».
أشهر سفيرات لبنان
رسمت فيروز بأغنيتها خريطة الوطن وهى نذرت صوتها لمجد لبنان، على ما تقول فى «وعدى إلك» من مسرحية «أيام فخر الدين» (1966). لم يقتصر هذا الحب على الأغانى إذ إنها، وفى أعتى سنوات الحرب، لازمت البلاد كناطورةٍ لمفاتيحها. أما عندما اخترق صاروخٌ المبنى، حيث كانت تقيم، فخافت وزادَ صمتها ثم ركنت للصلاة.

انسكبت الأغنية التى ألّفها عاشقا لبنان، عاصى ومنصور الرحبانى، كعِقدٍ من الألماس حول حنجرة فيروز. استحالت تلك الأغانى أناشيد وطنية بصوتها، مجاهرةً مع كل سطرٍ ونغم بفخرها لكونها لبنانية. ولعلّ الشاعر جوزيف حرب اختصر هذا الولهَ الفيروزىّ بلبنان من شماله إلى جنوبه، عندما كتب لها «إسوارة العروس» التى لحّنها فيلمون وهبى؛ «لمّا بغنّى اسمك بشوف صوتى غلى.. إيدى صارت غيمة وجبينى على».
فى كبرى عواصم العالم، صدحت فيروز: «بمجدك احتميت بترابك الجنّة ع اسمك غنيت ع اسمك رح غنّى». وعدت وصدقت، فلم يفارقها لبنان فى كل المحافل الدولية، حتى أمست سفيرته الأشهر حول العالم.
فى تسعينها، تقف فيروز شمعةً على أدراج بعلبك، توقد الزيت فى السراج لتضيء الظلمة. قد ترتجف القلعة تحت ثقل السنوات والتحدّيات، لكنها لا تهوى. يمتدّ صوت «السيّدة» جسراً من سهل البقاع إلى بيروت إلى الجنوب، وصولاً إلى فلسطين ودمشق ومكّة. ما زالت تحتضن المدن وتخترق جدران النار بابتهالاتها: «بيتى أنا بيتك وما إلى حدا من كتر ما ناديتك وسع المدى.. أنا عالوعد وقلبى طاير صوبك غنّية».