عندما تسمع فيروز نفسها
مفيد فوزى يكتب من لبنان:
نصف ساعة بالسيارة بين بيروت.. والجبل، حيث تعيش مطربة الجبل فيروز وكنا فى السيارة أربعة.. الصديق اللبنانى هشام أبو ظهر
والفنانة نادية لطفى والرسام جورج.. وأنا:
وقفت سيارتنا أمام بيت صغير فى انطلياس بجبل لبنان، وقال هشام أبو ظهر: هون تحيا فيروزتنا!! وفتح لنا الباب عاصى الرحبانى.. زوج فيروز.
عاصى الرحبانى.. والذى تغنى فيروز على ألحانه، يجيد الحديث والترحيب بالضيوف ويتحدث عن فيروز بحب، حب فنان لفنانة، ومنصور، شقيق عاصى.. الذى يكتب أحيانا لفيروز بعض الأغنيات لا يهتم كثيرا بالضيوف. والأخوان يشبهان - إلى حد كبير- التوأمين مصطفى وعلى أمين.
جلسنا فى حجرة صالون تطل على الجبل.. وكانت الدنيا ليل ونسمات حلوة تلفح وجوهنا وأكاد أسمع صوت ترتيل عذب.. ولا أدرى لماذا، كان الجو الذى حولى يوحى لى بهذه الصورة. جلسنا جميعا على الأرض.. حتى نادية لطفى خلعت حذاءها فى بساطة وجلست كاليابانيات! أين فيروز؟!
قال زوجها عاصى.. بتيجى فورا.
بعد قليل، دخلت فيروز، شغلنى تأملها عن الترحيب بها كانت ترتدى فستانا أبيض مقفولا.. وبدت لى كأنها ملاك جميل.
واختلست نظرات سريعة لوجه فيروز، كثيرون يقولون إنها ليست جميلة.. ولكنى أراها جميلة حقا.. إنها شىء منحوت دقيق..
صوتها العادى اكتمل نضجه..
يصل إلى أذنى صافيا! وعيناها!!
عيناها عميقتان.. عمق صوتها.. وجلست فيروز وأخذت تتأمل نادية لطفى..! واحمر وجه نادية.. وقطعت الصمت.. وقالت كطفلة! عايزة أسمع خايف!
وقال عاصى.. بتسمعوا كل شىء أولا: أطباق الفسدق وبعض المشروبات وقامت فيروز كأنها تلقت أمرا، ووضعت «فوطة» على صدرها.. وراحت تحمل وتقدم لنا أطباق الفسدق.. وأخذ جورج يميل برأسه فى نشوة..
ومن جهاز التسجيل انساب صوتها وخلال لحظات الغناء، دخلت فيروز.. وجلست مثلنا تستمع إلى فيروز.. وبإحساس الصحفي، رحت أتأمل فيروز وهى تستمع إلى نفسها.. كانت تجلس.. ووجهها منكس.. وكأنها «خجلانة»!
كانت أصابعها تتشابك فى عصبية كانت تختلس النظرات وتبتسم كانت تتبادل مع زوجها عاصى نظرات ولهانة!
وكان التسجيل فى مهرجان بعلبك، وعندما اشتد تصفيق الناس لها كانت عيوننا جميعا مركزة عليها.. بينما كانت عينا نادية لطفى تنتديان بدمع هادئ..
فنادية تبكى إذا سمعت فيروز..
وتصيح إذا سمعت محمد قنديل وعندما شعرت فيروز أن عيوننا تحاصرها.. تعثرت نظراتها وهربت.
وامتدت أصابع جورج إلى ورق أبيض.. وأخذ يرسم فيروز..
واختار جورج لحظة حاسمة للوحة.. فيروز وهى تستمع إلى أغنية لها.. كانت غنوتها صوت ع الجبل.. بأخاف منه.. بارهبه.. باسمع فيه صوت فراق.
وتوقف الانسياب العذب.. وسادت فترة صمت.. وبدأنا نتغزل فى فيروز..
قال لها جورج.. ده مش معقول!
قالت نادية وبقايا دمع فى عينيها:
ده جميل جدا
قال هشام أبو ظهر بلهجة لبنانية: يا عيونى..
قلت لفيروز: نفسى أسمعك
خجلت فيروز وأحس عاصى بلحظة الخجل، فقال لها : الضيوف يكرموا يا عينى..
قالت مطربة الجبل..
عاصى.. الضيوف على عينى.. لكن ما بقدر أغنى هيك.. بدى أنساكم وأطفى النور.. بدى أنسى وين أنا.. قال عاصى : بتسمح أستاذ مفيد.. لزوجتنا أن تعتذر!
وقبلنا الاعتذار..
وعدنا نسمع مرة أخرى..
وامتدت السهرة للثالثة صباحا وكلما غنت فيروز ازددنا عطشا..
وغادرنا انطلياس فى الرابعة صباحا.. وبقت فى رأسى صورة فيروز، هذا الوجه المحدد الجامد ذو العيون النفاذة.. الذى يعطينى صوتها شعورا بالجمال ويزيدنى حبا فى الحياة.