اغتيال رسام كاريكاتير!
منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
لم يحدث فى أى مكان فى العالم - فى حدود علمي- أن جرت عملية اغتيال سياسى لرسام كاريكاتير، إلا لواحد فقط هو الفلسطينى ناجى العلى.. وأين؟.. فى لندن.
حدث هذا فى الساعة الخامسة و13 دقيقة (حسب بيان البوليس البريطانى – وحدة مكافحة الإرهاب) من يوم 22 يوليو 1987 فى شارع قريب من محل عمله فى مكتب جريدة «القبس» الكويتية.
وقع الحدث الإجرامى بشكل صادم ومفاجئ ومثير للقلق على حرية الرأى المتاحة فى الصحافة العربية. فهل أصبح الكاريكاتير خطرًا لهذه الدرجة؟ّ
ومن القاتل؟
حتى الآن وبعد مضى كل هذه السنوات لم يتحدد المجرم أو الجهة التى كانت وراء اغتيال هذا الرسام الذى لا يحمل سلاحًا قاتلًا - كالمسدس الذى قتل به بطلقة واحدة فى الرأس - فقط الريشة والورق والحبر الأسود.. والألم.. وطبعًا الموقف الوطنى والسخرية من الأعداء الذين اغتصبوا بلده، ومن الشخصيات والمواقف العربية والفلسطينية العاجزة التى تتسبب فى ضياع القضية.
ومع أن من المنطقى أن تتجه أصابع الاتهام إلى إسرائيل التى أوجعها كاريكاتير ناجى العلى، لأنه يشحذ همة العرب نحو الخلاص من الاحتلال.
لكن «حنظلة» الذى ابتكره الرسام تعبيرًا عن الإنسان الفلسطينى الضائع، وتعبيرًا عن نفسه، كان أيضًا يفضح فساد بعض قيادات العرب، فهل كان أحدهم وراء جريمة الاغتيال البشعة هذه؟!
هناك من زملاء ناجى العلى من يؤكد ذلك.
لقد كان كاريكاتير ناجى العلى ينبض بما يعتمل فى نفس وعقل وقلب كل فلسطينى وكل عربى من عذاب ومعاناة، فكان صوتًا حقيقيًا صريحًا.. صوت العرب.
وعلى مستوى الفن الكاريكاتيرى الساخر الساخط استطاع هذا الرسام الفلسطينى أن يشق لنفسه طريقًا مختلفًا عن كل الطرق المعهودة فى الكاريكاتير العربى.. ولم يكن يكتفى بالتصدى للصهاينة وجرائمهم، بل كان أيضًا يفضح فى الثمانينيات، خطايا وجرائم بعض الأنظمة والحكام والقيادات المتخاذلة بما فيها المنظمات الفلسطينية.
وهذا ما أثار ضده بعض الحكام العرب، فطردوه من بلادهم، ولم يعد له مفر سوى النزوح إلى لندن.. بعيدًا عن أى بلد عربى.. ووصفت لندن فى تلك الأيام بـ«عاصمة الصحافة العربية» فقد كانت تصدر فيها 7 صحف يومية عربية وعدة مجلات!
وكنت أرتب نفسى لحديث مع أخطر فنان كاريكاتير عربى، للنشر فى «صباح الخير» فذهبت والتقيت ناجى العلى فى مكتب جريدة «القبس» الكويتية، كان ذلك فى شهر يوليو 1987 - أى منذ حوالى 37 عامًا - أمضيت معه نحو نصف ساعة، كنت أتكلّم خلالها أكثر منه، فهو صموت، قليل الكلام.
فى رأسه حوار طويل فى قضية عمره، لكنه قال إنه يحب «صباح الخير» لأنها المجلة التى بسبب متابعته لها وإعجابه بمدرسة الكاريكاتير التى أطلقتها، جعلته يختار أن يكون رسام كاريكاتير.
وطلب منى أن أحمل منه تحية خاصة لفنان الكاريكاتير حجازى، الذى قال لى ناجى العلى، إن هذا الرجل حوّل فن الكاريكاتير إلى شيء عميق فى قالب سهل وبسيط.. وأنا أحب هذا.
اتفقنا أن نلتقى فى وقت قريب لأواصل الحوار، ومع أننا تحدثنا فى مختلف أعماله وأفكاره، فقد كنت أشعر بأنه متوتر إلى حد ما.. وجاد وغائص فى قضية وطنه، وقليل الابتسام.. وله وجه حاد متجهم رغم الحميمية التى تشعر بها فى حضوره.
لكن لم يمض أسبوع على لقائنا إلا وكانت فاجعة اغتياله بالقرب من مقر عمله، فى عصر يوم أسود.
كانت صدمتى كبيرة.. فأنا أضع هذا الفنان على رأس قائمة عمالقة فن الكاريكاتير العربى.. هذا الفن الذى درست تاريخه ومدارسه ونجومه وعايشت عددًا لا بأس به منهم، ويتفق معى فى وضعه على القمة أساتذة فى هذا الفن.
عمومًا جاءت جريمة اغتيال رسام كاريكاتير، لتثبت لنا، بعد وجيعة فقد ناجى العلى.. أن هذا الفن الساخر هو - بالتأكيد - سلاح فتاك يهز العروش ويسقط الحكومات، ويخيف الأعداء.. لكن إلى هذا الحد؟!
هل يكون مصير صاحب الرأى الشجاع الذى يعبّر عن ضمير شعبه، القتل؟
عندما كنت أستعد لإجراء حوارى مع ناجى العلى.. كان عليّ أن أتتبع مسيرته، ورحلات نزوحه الست: من قريته «الشجرة» التى ولد فيها قرب الناصرة، إلى مخيم «عين الحلوة» فى جنوب لبنان، إلى العاصمة اللبنانية بيروت، إلى الكويت.. تلاه نزوح جديد لبيروت ثم أخيرًا.. منفاه الأخير فى لندن.
وخلال لقائنا الأول والوحيد، والذى لم يكتمل، استفسرت منه عن الشخصية التى ابتكرها ونجدها فى كل رسومه «حنظلة»..
من أين خطر له هذا الاسم؟
من المرار.. الألم..
ومتى ظهرت هذه الشخصية فى ذهن مبتكرها؟
فى أعقاب هزيمتنا فى 5 حزيران/ يونيو1967
وهل صحيح كما يقول البعض أنها تمثلك شخصيًا؟
طبعًا..
لكنك وصفتها عند تقديمها لأول مرة على لسانه، فى 13 أغسطس 1969 فى جريدة «السياسة» الكويتية: أنا مش فلسطينى.. مش كويتى.. مش أردنى.. مش لبنانى.. مش مصرى.. يعنى محسوبك إنسان عربى وبس.
وهذا إحساسى أنا بنفسى.
أنت منذ حوالى 20 سنة أخذت طريقًا للكاريكاتير غير مسبوق.. مختلفًا تمامًا عن كل ما هو سائد.. لا بد.. لأن طريقى عمومًا مختلف.
تواعدنا على اللقاء لاستكمال الحديث، وشاءت الأقدار أن يكون حديثًا مبتورًا.. لم يكتمل، وخلال السنوات التى تلت عملية الاغتيال البشعة، تحوّل ناجى العلى إلى رمز كبير.. شهيد الكاريكاتير العربى.
ولا أريد أن أنسى ما أفصح به ناجى العلى من متابعته لمدرسة «صباح الخير» الكاريكاتيرية، وكانت ألمع مدرسة صحفية فى الكاريكاتير والرسم والكتابة الصحفية منذ انطلاقها فى عام 1956 كان هناك كاريكاتير قبلها، وكانت هناك مدرسة أو أكثر لهذا الفن الذى يتمتع بشعبية كبيرة.. لكن ما جاءت به كتيبة «صباح الخير» كان - كما يسجل أساتذة الصحافة - ثورة شاملة، منهجًا جديدًا، يعتمد التعبير عن أغلبية الناس، ومشاعرهم ومعاناتهم وتطلعاتهم، ولا يتوانى عن كشف عيوبهم والظواهر الاجتماعية التى عليهم التخلّص منها بل والسخرية من هذه الظواهر والسلوكيات.. ولم يكن هذا النهج مطروقًا من قبل، بل إن بعض كاريكاتير ما قبل «صباح الخير» كان يسخر بل ويستخف بالمواطن الغلبان ويقدمه فى صورة مهينة.
لمع على صفحات المجلة نجوم كبار أسسوا لهذه المدرسة التى أحبها الناس من أول عدد، ليس فى مصر وحدها بل فى كل البلاد العربية التى كانت تسمح بدخول «صباح الخير».. كان هناك رائد هذه المدرسة صلاح جاهين، وكان هناك أحمد حجازى وجورج البهجورى وبهجت عثمان وإيهاب شاكر وناجى كامل ورجائى ونيس، وإسماعيل دياب وجاء بعدهم صلاح الليثى ومحيى الدين اللباد ورءوف عياد ومحسن جابر.
ولى مع كل هؤلاء حكايات وذكريات تستحق أن تحكى.